كيف أقدر على إرضائها وقد أذنت لك فيما كنت تريد وطرقت الباب وفاجأتني بغير إذن سابق مني بذلك، وفيم كان كل هذا المكر، وفيم كان كل هذا الاحتيال؟ ومتى استباح أمثالك أن يفاجئوا أمثالي على هذا النحو، وفي مثل هذا الوقت من النهار؟ هنالك اشتد ارتباكه حتى بلغ الاضطراب أو كاد يبلغه، فلم يكن يقدر أنها ستلقاه هذا اللقاء ولا إنها ستنكر هذه المفاجأة، ولعله كان يظن بل كان يوقن أن سرورها بلقائه سيكون أشد من حاجتها إلى الاستطلاع، وسيكون أشد من إنكارها بهذه المفاجأة فلما رأى منها هذا الإلحاح في السؤال والتشدد في النكير فقد ما كان يملك من الأسباب، واختلط عليه الأمر فلم يدرِ ماذا يصنع ولم يعرف كيف يقول. ولو انه كان على شئ من البصر بصاحبته والعلم بدخيلة نفسها لرأى انه لم يكن مخطئاً حين قدر أنها ستبتهج بلقائه ولكنه كان شديد الذكاء قوي الفطنة واسع الحيلة ما بعد عن النساء وعن صاحبته هذه خاصة، فإذا لقي واحدة منهن أو لقي صاحبته هذه فهو رجل ساذج أول الأمر، لا حظ له من ذكاء ولا من فطنة، ولا قدرة له على ثبات أو فهم، حتى إذا اتصل الحديث وتنوع استرد ملكاته قليلا حتى يعود كدأبه في الحياة العادية، ذكي القلب قوي الفطنة متصرفا في ألوان الحديث. فلما رأت ارتباكه واختلاط الأمر عليه واضطراب لسانه في فمه دون أن يبلغ الإفصاح عما كان يريد، رقت له وأخرجته من حيرته بإجابته إلى ما كان يريد وإعلانها إليه إنها لن تلوم صاحبة الدار ولن تظهر لها سخطا ولا إنكارا.
ثم قالت: والآن حدثني من أين أقبلت وكيف أراك هنا اليوم، وقد تركتك في القاهرة منذ عشرة أيام؟ أنجمت من الأرض أم نزلت من السماء؟ قال إن عشرة أيام تكفي لقطع الأمد من القاهرة إلى الإسكندرية ولعبور البحر إلى مرسيليا (وطولون) ولبلوغ مدينة نيس حيث تقيمين قبل أن تستأنفي السفر إلى تلك المدينة الصغيرة الجامعية من مدن فرنسا الوسطى لتسمعي دروس الصيف. قالت فأني لا اشك أن عشرة أيام تكفي لهذا كله ولا اكثر من هذا كله ولكن تركتك في القاهرة غضبان أسفا لأنك ستقضي الصيف حيث لم تكن تعودت أن تقضيه، ولعلك تذكر انك كنت تحسدني وتسرف في الحسد على هذه الرحلة الجامعية التي كنت أزمعتها ولعلك تذكر انك ما زلت تصور لي حزنك ويأسك حتى رحمتك وأشفقت عليك، فكيف استطعت أن تفارق القاهرة وترحل عن مصر تظفر بزيارة باريس؟ فأنت