الذي يجب أن يسير فيه. وملك هذه صفاته وأعماله جدير حقا بأن يخلد التاريخ ذكره في ثبت الوجود
وبعد أن انتهيت من زيارتي استأذنته في الانصراف فقام من مجلسه منتصباً وبسط إلي إحدى يديه الغليظتين وظل قابضاً على يدي برهة وهو يرمقني بعينه المتسعة، وكانت ملامحه تدعو إلى الهيبة والاحترام إلى حد ألفيت نفسي عاجزاً عن أن أرفع إليه بصري، ثم ما لبثت أن هويت بفمي على راحته ألثمها في إكبار وإجلال
ولما أزفت ساعة الرحيل ودعت أصدقائي من سادة العرب وكبار العلماء كالأستاذ محمد شطا شيخ قضاة مكة، ورئيس الشرطة، وبعض الأطباء النابهين، ووصلت إلى جدة حيث قضيت أياماً في ضيافة الشيخ محمد علي وهو رجل علامة يحذق لغات شتى، وقد تجول في أنحاء أوربا، ويعرف الشيء الكثير من عادات الشرق والغرب
أقلعت الباخرة فوقفت في مقدمها واجماً ساكناً تتناهبني شتى العواطف، وأنا أودع هذه الأراضي المقدسة التي ربما أراها للمرة الأخيرة. وكلما بعدت بنا الباخرة اغرورقت عيناي بالدموع، فقد خلفت في تلك الديار صداقة جديدة تكاد لعذوبتها تشبه الحب، وذكرى عزيزة هي ثمرة عقيدتي في الإسلام واليوم الآخر. فما اعظم الفرق بين مدنية أصدقائي العرب، إخواني في الله، الذين تشبع في قلوبهم فكرة الاتصال بالواحد القهار فيصدفون عن الماديات، وبين مدنية المغرورين الذين يتهالكون فرقاً وراء قضبان المادة وينقعون غلتهم في شهوة المال!