وهنا يحسن بنا أن ننقل نص ما حكاه التاج السبكي عن أبيه في أثناء ترجمته للحافظ أبي الحجاج المزي، ففيه صورة دقيقة حية لما حن بصدده، قال:
(. . . . وحكى لي، فيما يحكيه من تسكين فتن أهل الشام، أنه عقب دخول دمشق بليلة واحدة حضر إليه الشيخ صدر الدين سليمان بن عبد الحكم المالكي - وكان الشيخ الإمام يحبه - قال دخل إلي وقت العشاء الآخرة، وقال أمورا يريد بها تعريفي بأهل دمشق، قال: فذكر لي البرزالي وملازمته لي، ثم انتهى إلى المزي فقال: وينبغي لك عزله عن مدرسة دار الحديث الأشرفية، قال الشيخ الإمام: فاقشعر جلدي، وغاب فكري، وقلت في نفسي: هذا إمام المحدثين! والله لو عاش الدارقطني لاستحيا أن يدرس مكانه! قال: وسكت، ثم منعت الناس من الدخول على ليلا، فقلت هذه بلدة كثيرة الفتن؛ فقلت أنا للشيخ الإمام: إن صدر الدين المالكي لا ينكر رتبة المزي في الحديث، ولكن كأنه لاحظ ما هو شرط واقفها من أن شيخها لابد أن يكون أشعري العقيدة، والمزي وإن كان حين ولي كتب بخطه أنه أشعري، إلا أن الناس لا يصدقونه في ذلك فقال: أعرف أن هذا هو الذي لاحظه صدر الدين، ولكن من ذا الذي يتجاسر أن يقول: المزي لا يصلح لدار الحديث؟ والله ركني! ما يحتمل هذا الكلام!
فأنت ترى أن أول ما ووجه به السبكي في الشام هو الإنكار على البرزالي والمزي وإضرابهما، ممن يتهمون بالميل مع ابن تيمية وأن أول ما تقدم به إليه فقهاؤها هو (إعلان الحرب) على هؤلاء، وموقف السبكي من هذا موقف نبيل مجيد، فقد رأى الأمر فتنة لا ينبغي أن يفتتن فيها مع المفتونين، فركن إلى دينه وضميره، وترك بنيات السبل، ولم يعبأ بهذه الصغائر وما تنطوي عليه من إنذار وتهديد، ولبث مصاحبا للبرزالي ملازما له، إلى أن خرج إلى الحج وقضى نحبه، ثم ما فتئ يذكره ويثني عليه أطيب الثناء، وأقر المزي في مكانه بدار الحديث إلى أن مات سنة ٧٤٢هـ، وكان يكبره غاية الإكبار، ويحث ابنه على ملازمته والانتفاع به، لا يصرفه عن ذلك تقولات المتقولين ولا ازورار المزورين
ولما مات المزي كان ثمت مظهر آخر من مظاهر هذه الفتنة في تعيين خلف له، فقد كان الذهبي هو وحده البقية الباقية من رجال الحديث الجديرين بتولي مشيخة (دار الحديث) ولكنه كان متهماً بمشايعة الحنابلة شيعة ابن تيمية، فمال عنه القوم لذلك، ورشحوا شمس