من كل أخرق تنسل الحظوظ به ... إلى المراتب يسمو في مراقيها
خابي القوى عبقري الجهل يثقله ... عبء الرياسة إذ يدعوه داعيها
فتراه قد استوعب في هذه القوالب الشعرية أكثر المعاني التي تتركب منها هذه الموصوفات، وهذه غاية التصوير الشعري؛ وفي (عبقري الجهل) ظرف كثير، وقد أخذت هذه الكلمة سبيل الكلمات السائرة
والقصيدة زاخرة بالمعاني، منها ما هو عام يجول في نفس الشاعر وفي نفوس غيره، بيد أنه تفرد في ترجمة المعنى وصوغه في صور طريفة، ومنها معان مبتكرة مضى إليها خياله سابقاً، فمن النوع الأول قوله:
أرخصتمو غالي الأخلاق في بلد ... لم تغل قيمته إلا بغاليها
يا رب نفس أضاء الطهر صفحتها ... أفسدتموها فزلت في مهاويها
وكم قلوب كساها الحسن نضرته ... دنستموها فعاد الحسن تشويها
أغلقتمو سبل الأرزاق لم تدعوا ... لفاضل الخلق سعياً في نواحيها
مدارس تغرس الأخلاق في نشأ ... ومغلق الرزق بعد الغرس يذويها
لا تلح طالب رزق في نقائصه ... إن الضرورات من أقوى دواعيها
ما أطهر الخلق المصري لو طهرت ... تلك الرياسات من أهواء موحيها
ومن أبكار المعاني قوله في الخمريات التي ابتدأ بها:
بكرا تدور على الندمان لابسة ... عقداً من الحبب الدري يزهيها
سرى شذاها فحيا النفس أنفسا ضعفت ... من الهيام بها عن أن تحييها
فهذا (الزين) أول من يلبس الكأس عقداً؛ والبيت الثاني اشتمل على معان لا يسلكها في بيت واحد إلا شاعر فحل، فالكأس ذات شذى يحي الأنفس، والأنفس تتأثر بالشذى حتى يستهلكها، فما تعود قادرة على تحية الكأس الوافدة عليها يقدمها شذاها محيياً. وإليك هذين التشبيهين في مواهب النوابغ:
جادوا بأعمارهم حتى لجاحدهم ... إن المواهب سلم في أعاديها
كالشمس تقيس منها عين عابدها ... وترسل النور في أجفان شانيها
والنفس إن ملئت بالود فاض على ... نفوس أعدائها بالود صافيها