كالسحب إذ ملئت بالغيث فاض على ... جدب البلاد خلوف من هواميها
بعد أن تقرأ التشبيه الأول وتقضي حقه من الإعجاب قف هنيهة عند التشبيه الثاني، وانظر قوة معانيها وكثرة اوجه الشبه فيه، فالنفس المشبعة بالود كالسحب المشبعة بالغيث، والنفوس التي تجحدها كالأرض الجدب، ومع هذا فالنفوس الخيرة تعلو علو السحب وتفيض على جاحديها بالود كما تفيض السحب على الجدب بالغيث
والزين أول من يطالب بدم قتلى المواهب في قوله:
يا آخذين بقتل النفس قاتلها ... قتلى المواهب لم يسمع لشاكيها
كم للنبوغ دماء بينكم سفكت ... باسم المآرب لا اسم الله مجريها
هلا اقتصصتم لها من ظلم سافكها ... وقل فيما جناه قتل جانيها
أولى الورى بقصاص منه ذو غرض ... يخشى المواهب تخفيه فيخفيها
ويصور القاتل في هذه الصورة النفسية المبدعة يخفي المواهب بقتلها حتى لا تغطي عليه وتخمله
وهذه القصيدة من الشعر الذي يقال فيه: ألفاظه قوالب معانيه؛ فالمعنى يسابق اللفظ حتى يكاد يسبقه، واعتقد أن نجاحها - إذ كانت قصيدة الموسم غير منازعة - يرجع أكثره إلى شدة إحساس الشاعر بمعانيها، وصدورها عن شعوره العميق في ثوب من البيان السليم من التكلف والتعقيد
ويظهر أن حسن القصيدة شغلني عما عساه أن يكون فيها من المآخذ؛ وان كان الإنصاف قد اقتضاني أن أبدي - ما استطعت - بعض حسناتها، فإن الإنصاف نفسه يقتضيني أن أنظر إلى الكفة الثانية. .
يقول:
كم للنبوغ دماء بينكم سفكت ... باسم المآرب لا اسم الله مجريها
يقال - مثلاً -: إن هذا الإثم ارتكب باسم المصلحة العامة، أي أن المصلحة العامة اتخذت اسما فحسب لتبرير الفعل، وتكون الحقيقة أن هناك باعثاً على الفعل غير الذي اتخذ اسماً؛ فالتعبير الذي في البيت وهو أن الدماء سفكت باسم المآرب يفهم أن المآرب اتخذت اسماً فقط، مع أنه يريد أن المآرب هي الباعث الحقيقي على سفك دماء النبوغ