والحرية أسمى ما يتمتع به الإنسان، وأثمن ما تزدان به الكرامة الإنسانية، ولكن التطرف في فهمها وتطبيقها يخرجها أحياناً عن دائرة المعاني الرفيعة التي قصدت إليها، وعندئذ تغدو ابتذالاً وخروجاً على النظم والقوانين، وأحياناً على الحشمة والحياء.
وقد وصلت الحريات السياسية في فرنسا إلى حدود التطرف والإغراق، ووصلت الحريات الاجتماعية إلى حدود الإباحة والابتذال.
وإنه ليكفي أن نتتبع ما يقع في فرنسا كل يوم من مظاهرات واعتصابات عنيفة، وما يحيط المعارك والمناقشات الحزبية فيها من مناظر الاضطراب والفوضى، وما تتكشف عنه حياتها ونظمها العامة من ألوان الفساد والضعف في تكرار الفضائح المالية والسياسية المثيرة، لنحكم بأن هذه الصورة من النظم الديمقراطية التي تقدمها إلينا فرنسا ليست من افضل صور الديمقراطية وأحبها.
وفي وسع السائح المتجول أن يلمح كثيراً من ألوان الفوضى السياسية في فرنسا، في أقوال الصحف وفي مناقشات الأفراد، وفيما يعرض للبيع من النشرات السياسية والشيوعية التي تسمم الآراء وتذكي الشهوات والأحقاد. ولقد حدث ونحن في باريس في الأيام الأولى لاضطرام الثورة الإسبانية أن هب فريق كبير من الصحافة الباريزية يتهم الحكومة الفرنسية بأنها ترسل الذخائر والطيارات سراً إلى حكومة مدريد، وأنها بذلك تزيد نار الثورة ضراماً وتعرض السلام للخطر، فاضطرت الحكومة أن تصدر بلاغاً رسمياً تنكر فيه هذه الوقائع، واضطرت بعد ذلك أن تثير مسألة عدم التدخل في الحوادث الإسبانية، هذا بينما انتهزت الدول الفاشستية (إيطاليا وألمانيا) كل فرصة لإمداد الثوار بكل صنوف المعاونة في الوقت الذي لبثت تتظاهر فيه بقبول فكرة عدم التدخل؛ وهكذا أفسدت الصحافة برعونتها على الحكومة موقفها وسياستها.
وفي فرنسا اليوم حزب شيوعي قوي يحتل أربعة وسبعين كرسياً من كراسي البرلمان، ويبث دعايته في عدة صحف ونشرات قوية في مقدمتها جريدة (الأومانتيه) التي أسسها جان جوريس، ويكتب فيها اليوم أشهر الكتاب والنواب الشيوعيين مثل مارسل كاشان، وبول لوي، وفايان كوترييه، وموريس توريز وغيرهم.
وكثيراً ما سمعنا، عندما نشبت الثورة في إسبانيا، أن فرنسا قد تضطرم عما قريب بمثل