خرج طريد القدر من بيته خروج (أوديب الملك) من قصره ثم هام في الطرق الضيقة المتشابكة يسأل الرائح والغادي عن مفتي بغداد، فلما ادخل عليه باح له بسر الخطيئة فهول عليه التركي بعقابها، وبالغ في جرائرها وأعقابها. ثم أفتاه بعد الاستشارة والاستخارة والرؤيا أن الله لا يكفر هذا الجرم إلا إذا صدف عن متاع الحياة، وخرج عن أثيل الملك، واستتر بأخلاق الثياب، وقضي بقية عمره في جمع الخبز للكلاب الشوارد!
أذعن الخاطئ البريء لحكم الفقيه الأحمق ونزل للزوجة الأخت عما يملك، وارتدى طمرا من غليظ الكرباس وجعل على عاتقه مخلاة ومضى يقرع كل بيت ويقصد كل مطعم ويجمع الفتات والخبز ثم يقف بالميدان فيقسمه بالسوية على من أجاب الدعوة من كلاب الحي.
لم يمض غير قليل حتى عرفه الناس وألفته الكلاب فصار يمشي في الأزقة وخلفه منها قطيع، وينام في العراء وحوله من شدادها حرس مطيع، وتحين الوجبة العامة فلا تجد كلبا طليقا في بغداد إلا أجاب نداءه. وتناول من يديه المحمومتين غداءه، ولكن الوالي رأى على طول الزمن أن يدي أبي الكلاب على رعيته عافية وربيع فسمن هزيلها وكثر قليلها حتى اختنق بلهاثها النهار؛ وصم بنباحها الليل، وأصاب الناس من عظاظها وأمراضها شر كبير. فأقام في ظاهر المدينة حظيرة واسعة ثم أمر الشرطة فصادوا الضواري وألقوها فيها. فكان أبو الكلاب على عادته يجمع الطعام والعظام ثم يذهب إلى ضيوف الحظيرة فيطعمها ويسقيها ثم يتهالك على الأرض من اللغوب فيرقد مكانه حتى الصباح.
وفي ضحوة يوم من الأيام أولم الوالي لأسراه وليمة السفاح فما نجا من بعدها لاهث ولا نابح، وجاء أبو الكلاب فرأى ألافه الخلصاء على أديم الأرض صرعى لا يتملقن بعين ولا يبصبصن بذنب!! فعظم على المسكين أن يرى مثال الصداقة يموت وشبح الجريمة يحيا فتساقط بجانب السور مهدود القوى صريع اليأس ولبث مكانه لا يأكل طعاما ولا يذوق مناما حتى لحق بربه.