هذه بغداد الإسلام؛ فيها أربعمائة وخمسون ألفاً؛ وهذا إيوانك تصفر فيه الرياح الباردة صفير الفناء المرعب، وتنشد فيها الطبيعة نشيد الموت!
من الذي كان يفكر أيام عز الإيوان أن صبية العرب ستلعب في أنقاضه؟ من الذي يفكر اليوم بان أطفال الحبشة ستقفز على أطلال روما؟ لا تتعجبوا من شيء، إن الليالي يلدن كل عجيبة. . .
وليعتبر الطغاة، فلقد كان كسرى - يوم كان كسرى - اضخم سلطاناً، واعظم بنياناً، واكثر أعواناً، فأباد الزمان السلطان، ودك البنيان، واهلك الأعوان. . .
اعتبروا. . . فهذا صرح كسرى خال موحش. وهذا قبر سلمان عامر مأنوس. . . قد مات القصر، وعاش القبر! قصر كسرى شاهنشاه، الذي كانت تقوم على بابه الملوك.
. . . ضاحين حسرى من وقوف خلف الزحام وخنس قد مات، وغدا قبراً في الفلاة؛ وهذا القبر، قبر فارسي من عامة الناس، يصبح مثوى الحياة، تلتف به البيوت، ويؤمه الزائرون، يقفون حياله خاشعين، ثم يعودون ولا يلتفتون إلى الإيوان وبينهما ثلثمائة متر. . .
اين كان سلمان من كسرى انوشروان؟ أين كان من وزراءه واتباعه؟ أين كان من خدامه وحشمه؟ صه. . لقد خلد سلمان بالإسلام، فكان اعظم من كسرى!
أما بعد، فقد تكون الأهرام اضخم أفخم، وأعمدة بعلبك اجل واجمل، ولكن للإيوان معنى آخر. . .
هنا كان يستقر جلال الماضي كله؛ هنا كانت عظمة الملك وجبروت السلطان؛ هنا كان الذي يستعبد الناس، فيؤلهه الناس. . . لم يبق من ذلك كله شئ. . .
وكانت الشمس قد جنحت إلى المغيب، فنزلت ووقفت أودع الإيوان، فاقترب مني سائل اعمى، وجعل ينفخ في ناي معه نغمة حزينة مؤثرة. . . فكان لها - في تلك الساعة، في صمت الصحراء، ووحشة الإيوان، وغروب الشمس - اثر في نفسي لا يوصف، فقلت: آه. . . ليتني كنت شاعراً.