أو المصنع لا يتجاوز بضع ساع من النهار كان لديه وقت من الحرية والفراغ طال أو قصر يتسنى له خلاله أن يتذوق لذة الاستقلال قبل أن ينوء به عبء التبعة. . . غير أن زمن اللذة قد ولى وأدبر وبدأت حياة الجد والكفاح، وحتى هذا الوقت لم تكن آراء الشباب إلا قضايا عقل وخلجات نفس ينبغي أن تستحيل إلى عقائد وقيود! كان ميله هوى، وصداقته مسلاة، وحبه تلهية من تلاهي الخيال قبل أن يكون حاجة من حاج القلب وضرورة من ضروراته، وكانت علاقاته بالعالم لذة لحظة أو ملال لحظة، ثم استحالت إلى سلاسل وأغلال لا يستطيع المرء أن يتحرر منها دون خطر، ثم تتجمع حول الرجل الكامل المنافع والغايات والحاجات والمنافسات. وتحيط به وتنبسط أمامه فلاة بلقع ليس فيها سوى أهراس وعواسج ومهاو، وقد كان الشاب لا يرى فيها إلا سهولا منبسطة تغطيها رياض بها أطيب الزهر وأشهى الثمر! كل هذا حق، وهل يمكن أن يقال أكثر من هذا في مدح الشباب وذم الرجولة؟ ولكن لم خلق الإنسان؟ خلق ليكون رجلاً يكافح ويناضل، أما السلام فليس من أطوار هذه الحياة، إن نشدته وجدته أبعد من الفرقدين واعسر من رد أمس الدابر. إن هذه الحياة جهاد ونضال، وحري بالرجل أن يكون كالربان في بحر تحفه الأهوال، وليس أدعى إلى السخرية من شاب في سن الرجولة أو في سن الشيخوخة مثل ذلك الشاب الأبدي يدعو إلى حزننا ورثائنا، وليس الذي نرثى له من أجله هو ذلك التناقض المادي والمعنوي، أو الجسدي والروحي في الشخص الواحد، ولكن ذلك النقص المعيب والخمول المزري، وتلك القوة المعتلة ثم ذلك الوقار الضائع والأهلية المفقودة. . كل هذا ليس إلا ضعفاً هرمياً قبل الأوان، فالطبيعة تثأر لنفسها بشيخوخة مبكرة طافرة مع من لم يعرف كيف يتلقاها ويرحب بها ويتأهب لها وهي تدنو منه في رفق وتريث واتئاد. . .
يَبذُّ الشاب الرجل ببهجته ونضارته وجماله، أي يبذه بشيء ليس إلا عرضاً زائلاً، وعثاً بالياً، وزينة أحرى أن تفاخر بها المرأة، ويبذه الرجل بقوته واحتماله، وعلمه وحزمه ووقاره. يريد الرجل فيعمل، وينتوي فينفذ، ويعد فيصدق، ويكافح فلا ينثني له عنان ولا تلين له قناة. ويقف الشاب من مسرح الحياة موقف المتفرج بينما يلعب الرجل فوقه دوراً تافهاً أو عظيماً. ولربما تطلب أتفه الأدوار جهداً فوق الذي يتطلبه أعظمها، فعول أسرة أشق غالباً من تأسيس مملكة.