وتكلم الأستاذ السقا من بعد ذلك عن البيان والتبيين فقدم بين يدي الموضوع كلاماً طويلاً يتصل بشخصه أكثر مما يتصل بأمر الكتاب، فذكر أيامه في دار العلوم وهو طالب، وقال: إنه كان يكره البيان والتبيين ويستثقله وينفر منه، حتى حببه إلى نفسه نصيحة أستاذ مخلص، فأقبل عليه وأنتفع به في ثقافته الأدبية، وبلغ من إعجابه به أن كان يعاود قراءته، ثم عرض لموضوع الكتاب وذكر أبوابه وفصوله، وتكلم في أسلوبه وطريقته وأفرغ عليه كثيراً من الثناء والتمجيد، ومن العجب أنه ذكر تعريف الإنسان الذي نقله الجاحظ عن أرسطو فقال: إنه الحي الميت!! وقد سمعناه يعيده ثانيةً بهذا النص، وإنما هو الحي المبين على ما نعرف، ولكنه نطق التعريف كما جاء محرفاً في الكتاب!!
اليوم الخامس
وكان القول فيه للأستاذين إبراهيم مصطفى وأحمد الشايب، وكان موضوع الكلام للأستاذ إبراهيم مصطفى عن (دعاية الجاحظ)، وقد التبست الدعاية بالدعابة على السامعين، فانتظروا من الأستاذ أن يفيض عليهم من فكاهات الجاحظ ونوادره ولكنهم دهشوا إذ رأوه لا يمس ذلك ولا يقترب إليه، فجاءوا باللوم العنيف على الأستاذ، وقالوا: إنه أهمل موضوعه وخرج عليه وما كان مبعث هذا كله إلا تلك (النقطة) الخبيثة التي أهملتها يد الطابع، فأساء إلى الأستاذ وأساء إلى السامعين!
وقد أبتدأ الأستاذ القول في دعاية الجاحظ بما كان بينه وبين أبي هفان إذ قيل لأبي هفان: لم لا تهجو الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بمخنقك؟! فقال: امثلي يخدع عن عقله؟! والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرةً، ولو قلت فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة!
وعلق الأستاذ على هذه النادرة فقال: ونحن إذا تأملنا هذه النادرة نجد إن أبا هفان الشاعر قد تراجع أمام الجاحظ الناثر، أو بالأحرى نجد الشعر قد أنهزم أمام النثر، ذلك لأن الجاحظ قد نصر النثر على الشعر، فاستخدمه في موضوعات لم تكن له من قبل، وراضه على سبل استعصت على الكتاب السابقين، ثم إن الجاحظ في نثره قد أهتم بالتقرب من الجمهور ما استطاع، فأخذ يطرق الأمور التي تشغل بالهم، ويكتب في المعاني والأغراض التي تحيط