زهت بثوبها السندسي الأخضر. . فبدت لك البحيرة في رداء عجيب: في مزيج من فيروز السماء ومن زمرد المروج الخضراء؟
أم منظرها وقد مالت الشمس للمغيب، وقد اشتمل الكون برداء مصفر حزين، وامتدت الظلال وأمعنت في الامتداد؛ وآوت الطير إلى وكورها وخففت من غلوائها. ولاحت لك البحيرة وقد تمثل فيها كل هذا الهدوء الحزين، وعلى محياها ذلك الشحوب الفاتن. في هذه الساعة القصيرة تتبدل تلك الألوان والشكول بسرعة هائلة، فلا تكاد العين أن تقع على منظر حتى يحول ويتغير.
قل لي أيها الصديق! أما استهواك منظر هذه الأطوار التي أحدقت بالبحيرة من كل جانب، وقد اختفى تحت الماء منها شطر وحلق في السماء شطر. فأما شطرها البادي للعيون فقد اكتسى بغطاء محكم من النجم والشجر؛ وأما شطرها الذي غمره ماء البحيرة فانه عار، ومن عناية الأقدار أن غمرته المياه فسترته عن العيون.
ولكن حدثني يا صاح أي هذين الشطرين قد شاقك أمره، فتاقت نفسك إلى إدراك غامضة واجتلاء ما خفي منه؟ هل خطر لك أن تغوص إلى أعماق هذه البحيرة حتى تبلغ أقصى أصول تلك الجبال، فتطلع على ما خفي من سرها، وما أبهم من أمرها؟ أم شاقك منظر هذه القمم الصاعدة في السماء فأردت أن تبلغ ذراها؟ ني لا أظنك تحاول الأولى؛ فقليل من الناس من تستهويه الأعماق البعيدة، فيحاول أن يغوص إليها. ونحن ذوو أحلام ضحلة، لا نجد في البحث العميق إلا عناء ونصبا. وسنبقى مدى الدهر قانعين بالظواهر تخدعنا وتقنعنا.
أما هذه القمم العالية، فأنك تراها أمامك كل حين، تبصرها عندما تستيقظ وتشرف عليك من سمائها النهار كله، وتبدو لعينيك في الليل البهيم مظلمة قاتمة، غامضة رهيبة، لكنها على هذا كله جذابة أبدا. . . . وأحسبك قد استهواك أمرها، وحدثتك نفسك بالصعود إليها. وفي كل نفس دافع ملح يدفعها أبدا إلى المعالي، ويجشمها في سبيلها الصعاب.
وكأني بك، أيها الصديق، وقد جلست فوق صخرة مشرفة على البحيرة وجعلت تتأمل هذه القمم، فتحس شوقا قد تملك قلبك، وضراما متوقدا يستثير همتك إلى صعود هذه الجبال، وبلوغ تلك المعالي. . . أنك تريد أن تسمو حيث يحلق العقاب، ويسبح السحاب، حيث