تنشق ذلك الهواء النقي الزكي، الذي تنشقه البزاة والنسور؛ لا هذا الهواء الأسفل الذي امتلأ بالأدران والأكدار، حيث تنظر من تلك القمم مطلا على هذه الأجساد التي تتحرك على أديم الثرى، فتراها من ذلك الارتفاع الشاهق على حقيقتها، فإذا هي في عينيك دود يزحف، أو حشرات تحبو.
إن بلوغ تلك القمم لخليق حقاً بأن يكون مطمح العين، ومنية النفس. ولا حرج عليك إن كنت قد شغفك حب تلك المعالي وأهمك التفكير فيها. فطوراً يحملك الأمل على جناحيه، ويحلق بك في جو السماء، فتحُال المرام قريبا، وأنه منك قاب قوسين؛ وطورا يثوب إليك الرشد، فتفكر وتقدر، وتقارن بين همتك وقدرتك. . فلا تزال بين ارتفاع وهبوط، وإقدام وإحجام.
ثم كأني أراك بعد ذلك وقد قطبت جبينك، وعضضت على نواجذك؟ فهل صح عزمك على أن تجشم النفس هذا العناء الثقيل وهذا الجهاد الطويل؟ لئن كانت تلك عزمتك التي عزمت، فهل تعلم أي الطرق تسلك كي تبلغ مأربك؟
إن لهذه القمم التي تراها حديثاً شيقاً طليا، سأحاول الآن أن أسر إليك خبره. فلعلك واجد فيه عونا على النجاح أو سلوانا عن الإخفاق. . . .
إن الناس أيها الصديق يبلغون تلك المعالي من طرق ثلاثة، ليس لها رابع: فأما الطريق الأول فسبيل معبد ممهد، تحف به الرياحين، وتجري حوله الآنهار، وقد نبت فيه العشب الندي، وأحاط به الثمر الجني، وأعجب ما في هذا الطريق أن سالكه لا يكاد أن يسير فيه خطوات قلائل، حتى يبلغ مأربه، كأنما الغاية تسعى إليه ولا يسعى إليها، أو كأن الطريق يحمله حملا يبلغه مرامه. فما هو إلا أن يغمض طرفه ثم يفتحه، فإذا الأماني قد تحققت، والمعالي قد دنت ودانت.
وأظنك تعلم يا صديقي أن ليس لأمثالك وأمثالي أن يسلكوا هذا الطريق؛ وأحسبك تعلم أنه مما اختص به أولئك المجدودون، الذين ولدوا في حجر النعيم، ورعتهم نجوم السعد، وحرستهم عين المشتري، وهزت أرجوحتهم يد الزهرة: وفي وسعهم إن شاءوا أن ينزلوا إلى القمة نزولا، حين يحاول الناس أن يصعدوا إليها صعودا. ما من سبيل إلى مجاراتهم أو اللحاق بهم، فلندعهم ولننظر هل لدينا من طريق سواه.