أما الطريق الثاني فلعله أعجب من الأول وأغرب، فهو طريق خفي، شديد الخفاء. غامض كل الغموض، لا ترى له بدءا ولا تعلم له اتجاها. . ملتو غاية الالتواء، معوج شديد الاعوجاج وسالكوه قوم قد رزقوا البراعة والمهارة. فهم تارة يثبون ويقفزون، وتارة يزحفون أو يحبون ويركعون ويسجدون، وطورا يسلكون طرقا مظلمة حالكة، وأحياناً يخوضون في الرجس والدنس. لا تثنيهم رداءة الطريق ولا وعورته، ولا اعوجاجه والتواؤه، وما أنت يا صاح من هذه الشرذمة التي تصل إلى القمة من أقذر السبل. فما أجدرك أن تدع هذا الطريق وتبحث عن سواه.
لم يبق غير سبيل واحد لا مندوحة لك عنه: وذاك هو الطريق الذي يدعوه أهل تلك النواحي (طريق البغال): أسم ستنبو عنه أذنك، وتشمئز منه نفسك. وسترفع رأسك إلى السماء كبرا وأنفة أن تنزل إلى هذا الدرك. أو تنحط إلى هذا المستوى. . . لكن رويدا فليس في الأمر نزول ولا انحطاط، وإنما هو صعود وارتفاع وارتقاء، وقد ينتهي بك إلى القمة التي تنشدها. فلتخفف إذن من غلوائك، واذكر انهم يدعون هذا الطريق بالفرنسية ويسميه الإنجليز - والألمان وأظنك بعد أن تردد هذا الاسم في هذه اللغات جميعا. سيصبح في أذنيك عذبا لذيذا سائغا.
ولئن كان في الاسم ما ينفر السمع، فليس في المسمى ما يبعث على النفور. ولعمري (بل ولعمرك أنت أيضا) انه لأشرف السبل وأمثلها، وأصفاها وأطهرها، وان كان طويلا مضنيا مجهداً. فإذا كنت تريد المضي فيما عزمت عليه، وتحاول الصعود إلى تلك المعالي، فمحال على مثلك أن يسلك الطريق الأول، وأنت أعف قلبا وأنبل نفسا من أن تسلك الطريق الثاني. إذن لا رأى إلا أن تسلك ثالث الطرق، أو تنثني عن مرامك، وتقنع بالإقامة في السفح، مكتفياً من القمة بالتطلع إليها والتحديق فيها. . .
طريق البغال هذا سكة اختطوها على جوانب الجبال، كي يستطيع الرعاة والزراع أن يسيروا فيها ببغالهم وماشيتهم، وكثيرا ما تصعد فيها البغال منفردة، وهي تحمل للناس أثقالهم من موضع إلى موضع. وقد علمها إلف هذا الطريق كيف تسلكه من غير مرشد يرشدها، أو سائق يسوقها.
في هذا الطريق إذن فليسر من ينشد القمة، وأنا زعيم أنه إذا أوتي القوة والجلد، ورزق