الأصدقاء، واحسبه أن أعياه الظفر بمن يغيظه أو يعبث به لا يتردد في أن يغيظ نفسه أو يعبث بها، وله في الحطيئة قدوة سيئة وأسوة قبيحة. ولابد من أن يوجد في الأرض من يدعو الناس إلى الشر ويدفعهم إلى البغي كما يوجد في الأرض من يدعو الناس إلى الخير ويهديهم إلى البر والرشاد.
وقد هممت أيها الصديق العزيز المجهول أن اعرض عن هذه الرسالة التي لم أتلقها أو أن أؤجل الرد عليها كما أجلت أنت إرسالها ولكني - ولا أكذبك - لم أكد أتم قراءتها حتى استرحت إليها ونعمت بها لأنها صادفت هوى في نفسي ولاءمت بعض ما كان يضطرب في رأسي من الخواطر والآراء. فلم أجد بدا من أن أرد عليك في (الرسالة) لأني لا اعرف عنوانك ولأني قرأت كتابك في الرسالة وتلقيته من طريقها، ولأني لا آمن هذا العفريت الذي نسميه عوضاً ونكل إليه تعليم الجغرافيا في كليتين من كليات الجامعة أن ينالها بقليل أو كثير من التبديل والتغيير، وأنت تعلم أن من العسير جدا أن أجيبك في فصل واحد إلى تبويب هذه الكتب الأربعة التي ألفتها غير مبوبة، فذلك يحتاج إلى وقت وفراغ لا أملكهما في هذه الأيام أيضاً؛ وذلك يحتاج بعد هذا إلى مكان من الرسالة قد لا تستطيع أن تخصصه لنا دون أن تظلم واحداً أو اثنين من كتابها الأدباء. ولست اذكر الرفق بالقارئ ولا الترفيه عليه، فالقارئ آخر من أفكر فيه؛ وليس يعنيني أن يغضب أو يرضى، وليس يهمني أن يقرأ أو يعرض عن القراءة، فإني لا اكتب له وإنما اكتب لك. وأنا لا اكتب له لأن هذا الموضوع اعمق وأدق من أن يكتب للقراء؛ إنمايكتب للقراء في فلسفة أفلاطون وأرسططاليس ونيتشة وأمثالهم من أصحاب العقول الجبارة؛ فأما فلسفة الجراد فإنها الطف وأخفى وأرق من أن تبلغها عقول المثقفين أو تنفذ إليها بصائر المستنيرين؛ لهذا أفكر فيك أنت ولا أفكر في القراء؛ ولو فكرت فيهم لما كتبت شيئا، لأني لا احب أن ألقاهم بما يكرهون لا سبيل إذن إلى أن أتحدث إليك في هذه الموضوعات الأربعة التي ألفت فيها كتبا غير مبوبة، وإنما أتحدث إليك في موضوع واحد منها اختاره ليكون نموذجا لغيره من الموضوعات التي ألفت فيها والتي يمكن أن تؤلف فيها؛ فإن أبيت إلا أن أبوب لك هذه الكتب الأربعة فقد نستطيع أن نصنع ذلك في مجالس خاصة نلتقي فيها بين حين وحين لهذا العمل الجليل، نلتقي فيها لنتحدث على مهل وفي حرية دون أن يشاركنا في الحديث