هؤلاء القراء الذين لانا منهم أن يذهبوا فينا المذاهب وان يطلقوا فينا الألسنة وان يظنوا بنا الظنون.
وقد اخترت تعليم الجراد أصول الفلسفة موضوعا لهذا الحديث. وأول ما ألاحظه أيها الصديق العزيز المجهول انك أهملت عنوان الكتاب الذي ألفته إهمالا شديدا، واكبر الظن أن إهمالك للفنون هو الذي حال بينك وبين تبويب الكتاب على ما تحب.
ولست ادري أصحيح ما قال القدماء من أن الكتاب يعرف بعنوانه، ولكني اعتقد أن عنوان الكتاب يبوبه وينظمه، ويلائم بين أجزاءه ويشيع فيه هذه الموسيقى التي تحببه إلى النفوس وتغري به عقول القراء. وأول ما يجب العناية بالعنوان فيما أرى أن نذهب به مذهب القدماء الصالحين، فلا نرسله إرسالا ولكن نقيده بالسجع، لأن إرسال الأشياء في غير قيد يمكنها من أن تهيم على وجهها وتنطلق في غير وجه، وتكون كالجراد هذا الذي لا يستقر على سنبلة أو كوز إلا ريثما ينتقل إلى سنبلة أو كوز. فإذا أردت يا صديقي أن تضع كتاباً فلا تفكر في موضوعه ولا في أجزائه ولا في أبوابه وفصوله ولا في غاياته وأغراضه، فهذا كله يأتي وحده دون أن تدعوه أو تلج في دعائه بالعناية أو التفكير، إنما الشيء الذي يجب أن تقف عليه جهدك، وتنفق فيه وقتك، وتستنفد فيه قوتك، هو العنوان، والعنوان المقيد المسجوع. ويشهد بذلك تراثنا الأدبي العظيم الذي أن أحصيته وجدت أكثره قد قيد بهذه العنوانات المسجوعة؛ ويشهد بذلك صديقنا الزيات فقد كانت لنا معه جولات قيمة خصبة أيام الشباب في هذا الفن الذي لا يحسنه إلا اقلون؛ ويشهد بذلك صديقنا محمود حسن زناتي الذي كان أستاذنا في هذا الفن العجيب. لذلك لم أكد اختار هذا الموضوع للحديث حتى فكرت قبل كل شيء في عنوان الكتاب الذي ألفته ولم تنبئني منه إلا بطرف يسير قصير. وقد سميت هذا الكتاب كتاب الإرشاد إلى فلسفة الجراد وأخص ما يمتاز به العنوان البارع أن يراه القارئ فيظنه واضحا جليا، فإذارآه الأخصائي تبين فيه ألوانا من الغموض وفنونا من الغرابة تحتاج إلى الشرح والتفسير، والى الحاشية والتقرير ولاشك في أن المثقفين من قراء الرسالة سيرون هذا العنوان سهلا سائغا وقريبا دانياً. ولكن أصحاب البيان والراسخين في علم التأويل سيلاحظون أن كلمة الفلسفة هنا قد استعملت في غير معناها الحقيقي المعروف؛ فليس للجراد فلسفة؛ والدليل على ذلك انك تريد أن تعلمه