سحبتني بشابك من ذهب وأطلقت قهقهة ساخرة عندما قلت إن غدرك لا قرار له. وأجبتني: - هذا ما تقوله الأسماك جميعها، فهي إذ تعجز عن سبر الأغوار تحسبها لا قرار لها. وهل أنا إلا المتقلبة النفور؟ وهل أنا إلا امرأة، وامرأة لا فضيلة لها. لقد تقول الناس كثيراً عن صفاتي ولكنهم أجمعوا على أنني غير المتناهية، المليئة بالأسرار
أيها الرجال، إنكم ترون في فضائلكم، فأنتم لا قبل لكم بادراك شيء آخر غيرها أيها الفضلاء. . .
هذا ما كانت تقهقه به في سخريتها تلك الحياة، غير أنني لا أثق بها ولا أصدق ضحكها عند ما تهجو نفسها
وناجيت يوماً حكمتي النفورة فقالت لي غاضبة: - إنك تطلب الحياة وتشتاقها وتحبها وذلك ما يحفز بك إلى بذل الثناء عليها
ولولا أنني تمالكت نفسي لكنت رددت بعنف على حكمتي وأعلنت الحقيقة لها وهي تغاضبني وهل من جواب أشد وقعاً على الحكمة من أن تهتك سرائرها
ما أحب شيئا ًمن صميم الفؤاد إلا الحياة، ولا يبلغ حبي لها أشده إلا حين أكرهها. وإذا ما أنا اندفعت إلى الحكمة وأغرقت في الالتجاء أليها فما ذلك إلا لأنها تبالغ بتذكيري بالحياة. فان للحكمة عيني الحياة لها ولها ابتسامتها. بل لها أيضاً شابكها المذهب، فما حيلتي بهما إذا تشابهتا إلى هذا الحد؟
وعندما سألتني الحياة عن الحكمة أجبتها: هي الحكمة يشتهيها الإنسان بكل قوته ولا يشبع منها. فهو يحدق فيها ليتبين وجهها من وراء القناع ويمد أصابعه بين فرجات شباكها متسائلا عن جمالها وما يدريه ما هو هذا الجمال ومع هذا فان أقدم الأسماء لا تنفك عن الانجذاب إلى طعمة شباكها فهي متقلبة شديدة المراس. ولكم رأيتها تعض على شفتها وتسرح شعرها، ولعلها شريرة ومخادعة، بل لعل لها صفات المرأة بأجمعها فهي لا تبلغ أبعد مداها في اجتذاب القلوب إلا عندما تهجو ذاتها. . .
وبعد أن قلت هذا عن الحكمة للحياة، مرت على شفتيها ابتسامة شريرة وغضت من جفنيها قائلة: - عمن تتكلم. . . لعلك تتكلم عني أنا. . . وهل للإنسان أن يعلن مثل هذه الأمور بوجه من تعنيه حتى ولو كان محقاً. فما قولك الآن في حكمتك يا هذا. . .؟