النفوس والأذهان لا سعة الدساتير المسطورة على الأوراق؛ وإن نفساً تتسع للإبداع الحديث وترحب بالرأي الغريب وتستقبل النوازع النفسية والخوالج الفنية بغير حدود ولا أرصاد لهي حرة في غنى عن الإذن لها بالحرية، وهي وشيكة أن تنفض عن كواهلها كل ثقل يحول بينها وبين العمل الطليق
شر الآداب هو أدب الموافقة والمجاراة، لكننا نخطئ إذا حسبنا الحكومات الغاشمة علة هذا الأدب دون سائر العلل التي تفرضه على الكتاب والقراء
فالأدب التجاري أدب موافقة ومجاراة وإن لم تفرضه حكومة ولم يطلبه حاكم غاشم. لأن الذي يكتب للرواج يكتب ما يوافق الأذواق ويجاري الأهواء ولا يكتب ما ينبعث من سليقة حرة وقريحة شاعرة، والذنب في ذلك على الأخلاق لا على القوانين
والأدب الضعيف أدب موافقة ومجاراة وإن لم تفرضه حكومة ولم يطلبه حاكم غاشم، لأن النفس الضعيفة لن تهتدي إلى القوة ولو أخلى لها الحاكم طريقها. فهي توافق وتجاري عجزا عن الخلاف والانفراد، لا خوفاً من التفكير الطليق والقول الصريح
والأدب الجامد أدب موافقة ومجاراة، لأنه ينافر الحركة ويوافق السكون والركود
والأدب الذليل أدب موافقة ومجاراة، لأن الذليل لا يحسن غير التمليق والازدلاف، ولن يكون الملق إلا بالموافقة ولو كانت غير ماجورة، وبالمجاراة ولو كانت غير مشكورة
وما من عيب تعيله على أدب من الآداب إلا انتهى في قراره إلى أن يكون ضرباً من الموافقة ونقصاً في الحرية والإبداع، فالموافقة لا جديد فيها ولا حاجة إليها ولا دوام لها، وإنما تولع النفوس بالأدب لأنها متغيرة وليست براكدة، ولأنها متطلعة وليست بعمياء، وكيف يتفق التغير والمطابقة؟ وكيف يتمشى التطلع والاستقرار؟
إلا إننا نبادر فنقول إن أناساً يتمردون ولا يجيئون بخير مما هو منظور من الأدباء الموافقين المستسلمين، لأن التمرد المصطنع إن هو إلا موافقة مستورة ومجاراة معكوسة، فيه كل ما يؤخذ على التقليد من نقص وكل مما ينعى عليه من وخامة، وذلك ما نعود إلى تفصيله في مقال تال