للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الكاظمي شاعر العراق الكبير واتصل به وانعقدت بينهما أواصر الود على ما سيأتي تفصيله؛ وفي إيتاي البارود تفتحت زهرة شبابه للحب وتعطشت نفسه إلى لذاته، وعلى (جسر كفر الزيات) فيما بين إيتاي البارود وطنطا مسته شعلة الحب المقدسة فكشفت عن عينيه الغطاء ليرى ويحس ويشعر ويكون (شاعر الحس) من بعد؛ وفي طنطا كان نضجه وتمامه وإيناع ثمره.

وما أستطيع أن أصف بتفصيل واضح كيف كان يعيش الرافعي في تلك الأيام البعيدة، ولا كيف كانت صلته بالناس، ولا كيف تفاعلت حوادث أيامه باحساسات الشباب التي كانت تجيش بها نفسه الثائرة؛ ولكني أعرف شيئاً واحداً هو كل ما يهمني إثباته في هذا البحث، هو أن روحا رفافة كانت تطيف به في تلك الأيام فتنتزعه من وجوده الذي يعيش فيه لتحلق به في أجواء بعيدة وتكشف له عن آفاق مجهولة لم يسمع بها ولم يعرفها فتوحي إليه الشعور بالقلق وألم الحرمان والإحساس بالوحدة، فلا يجد متنفساً ينفس به عن نفسه غير الشعر، وكان ذلك أول أمره في الأدب وإليه كان آخر ما يمتد أمله، فما كانت له أمنية إلا أن يكون شاعراً، شاعراً وحسب.

لم يتعلم الرافعي الحب مما يسمع في مجالس الشبان، كما يتعلم أبناء هذا الجيل من أكاذيب المنى التي يتداولونها في مجالسهم فيتعلمون الحبَّ منها فنّاً له قواعد مرسومة وغاية محتومة. . . لكنه استمع إلى وحي الحب أول ما استمع في همسات روحه، وخلجات وجدانه، وخفقات قلبه، وانفعال أعصابه؛ إلى ما كان للحب في نفسه من صورة مشرقة شائقة مما قرأ من أخبار العذريين من شباب العرب؛ فأحس كأن شيئا ينقصه، فراح يفتقده وشعر كأن إنسانة من وراء الغيب تناديه وتهتف باسمه في خلوة نفسه وجلوة خاطره تقول: ها أنا ذي. . . فهام بالحسن ينشده شعره وينشد فيه مثاله الذي يدور عليه، وطار على وجهه كالفراشة الحائمة تقول لكل زهرة: أأنت التي. . . فلا يستمع إلى جواب وإن الصوت البعيد لدائب يهتف في أذنيه: إنني هنا، إنني هنا يا حبيبي فاقصد إلي. . .

لم يكن يحب إنسانة بعينها يناديها باسمها ويعرفها بصفتها، بل كانت محبوبته شيئاً في نفسه وصورةً من صنع أحلامه، يرى في كل وجه فاتنٍ لمحةً من جمالها، وفي كل طلعةٍ مشرقة بريقا من فتنتها، وفي كل نظرة أو ابتسامة معنى من معاني الحبيبة النائمة في قلبه وفي

<<  <  ج:
ص:  >  >>