أمانيه. . . فمضى يتنقّل من زهرة إلى زهرة، عفيف النظر والشفة واللسان، حتى انتهى أمره إلى أمر. . .
لم ينس الرافعي إلى آخر يوم من حياته ما كان من شأنه وشأن قلبه في صدر حياته، فكان دائم الحديث عن هذا العهد كلما رفَّت به سانحةٌ من سوانح الماضي تذكره ما كان من أمره وما آل إليه أمره.
ليس قصدي الآن أن أتحدث عن الحب في تاريخ الرافعي، فإن للحب في تاريخه فصلاً ضافي الذيول كثير الألوان متعددّ الصور له مكانة المفرد من هذا البحث في غير هذا الباب. ولكني أتحدث عن الرافعي في بكرة الشباب فما لي من مندوحة عن الإلمام بما كان يصطرع في نفس الرافعي في بكرة الشباب.
عاش الرافعي لفنه ولنفسه من أول يوم، فما عاقته الوظيفة عن أن يكون كما أراد أن يكون؛ على أنه كان إلى اهتمامه بفنه وعنايته بما يكمله، وعلى أنه كان لا يرضى أن تتعبده قوانين الوظيفة وتقيده أغلالُ النظام الحكومي - كان إلى ذلك دقيقاً في عمله الرسمي دقة تبلغ الغاية. وكان إليه تقدير رسوم القضايا والعقود ونحوها مما يتصل بعمل المحكمة؛ فكان كاتباً حاسباً لا يفوته شيء مما يسند إليه، حتى آل أمره من بعد إلى أن يكون المرجع في هذا العمل لكتاب المحكمة جميعاً، يستفتونه فيما أشكل عليهم من الأمر في تقدير الرسوم؛ ثم لكثير من كتاب المحاكم في مختلف البلاد، ثم لوزارة الحقانية نفسها وهي المرجع الأخير، تكتب إليه في زاوية مكتبة من محكمة طنطا تسأله الرأي في حسبة أو إشكال أو شيء مما يتصل بذاك، فيكتب إليها بالرأي لتبلغه في منشور عام إلى كل المحاكم الأهلية.
وكان عليه العبء من هذه الناحية في محكمة طنطا، وقد طلب أكثر من مرة أن يحال إلى المعاش ليتفرغ لفنه، فما كان يمنعه من المضي في طلبه إلا ذعر سائر موظفي المحكمة وإلحاحهم عليه أن يبقى لئلا يخلو موضعه.
وكان في صلته بموظفي المحكمة الذين يشركونه في عمله نبيلاً كريم الخلق إلى حد بعيد، فكان يتطوع ليحمل عنهم تبعة كل خطأ يقع فيه واحد منهم مهما كان مدى الخطأ ونتيجته؛ وقد رأيته مرة في صيف سنة ١٩٣٤ وقد لزمه مفتش من مفتشي الحقانية ثلاثة أشهر أو أكثر، يستجوبه عن خطأ في تقدير الرسوم لأكثر من مائة وعشرين قضية، بلغ النقص في