الرسوم المتحصلة عنها بضعة وتسعين جنيهاً؛ والرافعي يرد المفتش ويدافعه ويرى له الرأي ويصف له العلاج، والمفتش دائب الحضور كل يوم يبحث ويفتش ويستقصي وما ضاقت به أخلاق الرافعي؛ على حين لم يكن على الرافعي في هذه القضايا المائة والعشرين خطأ واحد، وما كانت إلا من أخطاء زملائه في المكتب حمل عنهم تبعتها حتى لا يتعرضوا لشرَّ هو أقدر منهم على الخلاص منهم.
وكان من اعتداده بنفسه وحفاظه على كرامته بحيث لا يسمح لرئيس مهما علا منصبه وارتفع مكانه أن يجحد منزلته أو ينال منه أيَّ نيل؛ وكان يفرط في ذلك إفراطاً يدعو إلى الشك أحياناً في تواضع الرافعي وكرم خلقه وحسن تصرفه.
ومن ذلك أنه لما كان هذا المفتش يؤدي عمله في المحكمة - وكان عمله التحقيق مع الرافعي - كان الرافعي يُلزم المفتش أحياناً أن يحضر هو إلى مكتب الرافعي في حجرته الغاصة بالموظفين ليسأله وهو جالس إلى مكتبه والمفتش على كرسيه إلى الطرف الثاني من المكتب. وكنت إحدى هذه المرات جالساً إلى جانب الرافعي - وكان يستدنيني ويشركني في عمله حين أذهب لزيارته في الديوان - فلما جاء المفتش هممت بالانصراف، فشد الرافعي ذراعي بعنف وهو يقول:(اجلس يا أخي. . .) ووجه إليه المفتش سؤالاً، فالتفت الرافعي إليَّ قائلاً:(فَهَّمه من فضلك يا شيخ سعيد أحْسن مُش قادر أفَهَّمه. . .) ثم ألتفت إلى المفتش قائلاً وهو يشير إليّ: (حضرته مدرس، يقدر يخلَّيك تفهم. .!)
لم يكن اعتداد الرافعي بنفسه يبلغ به إلى مثل هذا الشذوذ في كل أحواله، وإنما كان كذلك مع هذا المفتش بخاصته، لأنه كان يعتقد أنه يرمي إلى إحراجه والتضييق عليه لقضايا مدنية كانت بين الرافعي وبين أصهار هذا المفتش ولم يقبل فيها الرافعي شفاعته.
وكان من تقاليد المحكمة كلما نقل إليها قاض أو نائب جديد، أن يهرع إلى مكتبه موظفو المحكمة يهنئونه ويتمنون له؛ فما أكثر ما كان يتخلف الرافعي عن وفد الموظفين، ويظل وحده في مكتبه؛ فإذا فرغ القاضي أو النائب من استقبالهم، مضى إلى مكتب الرافعي في حجرته، فينهض الرافعي لاستقباله، فيقفان لحظة يتبادلان الشكر والتهنئة على هذا الاتفاق الذي هيأ لهما هذا التعارف. . . ثم يذهب إليه الرافعي بعد ذلك في مكتبه ليشكر له ويكرر التهنئة.