مضطرون إلى التفريق بينها في الدرجة والضرورة فلا نفضل منها إلا ما يتفق وغايتنا. ومن هنا كان ذلك الخلاف الهائل في آراء علماء التربية وأساليبهم؛ (فهربارت) يطالب بقيمة المادة (الذاتية) بصرف النظر عن نتائجها وآثارها، و (ديوي) يصر على اختيار المواد (النفعية) وفقاً لمذهبه العملي، و (ريدجر القائل بفكرة الملائمة مع البيئة يعطينا قِيمَاً آلية وأخرى ثقافية. فالأولى منها التحضيري كمواد القراءة والكتابة، ومنها العملي كمواد اللعب، ومنها (الاجتماعي) كمواد الأجناس والأديان والأخلاق والتاريخ والأدب، ومنها (التقليدي) كالخطابة والجدل؛ أما الثانية - الثقافية - وهي أرقى القيم جميعاً، فتدخل فيها المواد التي تحرر العقل وتهذب العواطف وترقى بالشعور، كالفلسفة الخالصة والأدب المجرد.
هذا وقد رتب الفيلسوف (سبنسر) المواد تبعاً لأهميتها وضرورتها فجعل علوم (الصحة) على رأسها، وتليها علوم (التربية) ثم علوم (السياسة والاجتماع) ثم علوم (الفراغ) أي (الفنون). . .!
أما (رسل) فقد فضل المواد التي (تُبقي وتحفظ قوة الخلق والتضلع والحيوية في الفرد، وتعينه على التمتع بالحياة ذاتها.
وأما الأستاذ (أمير بقطر) فيقول بانتخاب المواد التي تفتح على الطالب أكثر من باب واحد.
ولقد أدلى الأستاذ (أحمد أمين) برأيه في الموضوع فقال (إذا كانت قيمة الثقافة الذاتية هي أبداً في مقدار ما ترفعه في المثقف من وجهة النظر إلى الأشياء وتقويمها قيماً جديدة أقرب إلى الصحة، أسلمنا ذلك إلى نتائج خطيرة، فدين خير من دين بمقدار ما تحاول تعاليمه من رفع مستوى النظر إلى الله وإلى الحياة، وعلم خير من علم باعتبار ما يؤدي إليه من نظر راق صحيح. وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال.
وأنت ترى معي أن تلك النظرة من الأستاذ حصيفة كل الحصافة وبعيدة الغور وسامية المنطق، وأن نظرة (ديوي) مشوبة بالنفع العملي الذي يشوه فلسفته الخاصة، وأن ترتيب (سبنسر) يقلل من شأن تلك المتعة (العقلية والفنية) التي جعلها (هورن) جوهر الثقافة