هذه المسألة الأولى. أما المسألة الثانية التي أحب أن أوجه إليها أنظاركم، فهي أن الدين على ما يفهمه العلماء من أهل أوربا هو الذي ينظم علاقة الإنسان بالله، وبما خلق الله من المخلوقات المغيبات وراء المادة وبالعالم الآخر، فلا علاقة له بالحياة السياسية ولا الأوضاع الاجتماعية، ولا بالقوانين والنظم، ولا يصح أن تبنى عليه الجامعة الوطنية. هذا ما يقرره العلماء الذين بحثوا في هذه الجامعة وطبيعتها وقيمتها، وفي مقدمتهم (رينان) في محاضرته المشهورة التي ألقاها في السربون سنة ١٨٨٢. وهذا صحيح في الأديان ولكنه ليس بصحيح في الإسلام، لأن الإسلام ذاته وطنية، ورابطة اجتماعية معنوية، ليست قائمة على لغة ولا على أرض. ولكن على ما يسميه (أرنست رينان) بالإرادة المشتركة ويجعله أساس الرابطة الوطنية. فليس وطن المسلم مكة ولا المدينة ولا البلد الذي ولد فيه، ولكن وطن المسلم المبادئ الإسلامية، فحيثما وجدت هذه المبادئ وحيثما كان أهل (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فثّم وطن المسلم. وعندي أن هذه الرابطة الإسلامية رابطة (إنما المؤمنون اخوة) معجزة من أعظم معجزات الإسلام لأنه أقر منذ أربعة عشر قرناً المبدأ الذي اهتدى إليه العقل البشري سنة ١٨٨٢م وسار منذ أربعة عشر قرناً في الاتجاه الذي يسير فيه العالم اليوم. لقد سقط اليوم مبدأ القوميات الذي دعا إليه الرئيس ولسن بعد الحرب ونهضت المبادئ الفكرية الاقتصادية، فانقسم العالم كما ترون إلى جهات ثلاث: الديمقراطية والشيوعية والفاشية. وكما أن الشيوعي الفرنسي أخو الشيوعي الروسي ولو تناءت الديار وتباينت اللغات واختلفت الأجناس فكذلك المسلم أخو المسلم، أينما كان وكيفما كان. وكما أن الفاشيّ الإيطالي أقرب إلى الأسباني الفاشي من أخيه الأسباني الشيوعي فكذلك المسلم الهندي أقرب إلىّ من غير المسلم ولو كان عربياً هاشمياً قرشياً!
وليس هذا مجال البحث في الجامعة الإسلامية، وطريق تحقيقها، فإن لهذا البحث موطناً آخر وما أردت إلا لفت أنظاركم إلى هذه الناحية من الإسلام، لأقول بأن الشاب المسلم لا يستطيع أن يندمج في أي رابطة دولية تقوم على اخوّة غير الأخوة الإسلامية، ولا يقدر أن يدعو إلى أي رابطة قومية أو جنسية لأنه ليس من المسلمين من دعا بدعوة الجاهلية. . .