أما المسألة الأولى فهي أن ديناً يضع للعقل قواعد في التفكير، ويشرع للعلم طريق البحث، وينظم حياة الفرد وحياة الأسرة، ويكون هو القانون المدني والجزائي، والقانون الدولي، والأخلاق والفلسفة - إن ديناً هذا شأنه لا يصح أن يعدّ مع الأديان التي لا تتجاوز أحكامها عتبات معابدها، ولا يجوز أن نطلق عليه ما يطلقونه عليها من أحكام. فإذا قبلنا بمبدأ فصل الدين عن السياسة مثلاً وهو مبدأ محترم، فلا يصح أن نستنتج منه وجوب فصل الإسلام عن السياسة، لأن الإسلام ليس ديناً، ولكنه دين وسياسة. هل تستطيعون يا سادتي أن تحذفوا سورة براءة مثلاً من القرآن لأنها سياسة. .؟ وإن قبلنا مبدأ استقلال العلم عن الدين لأن الدين لا يستند إلى البحث العلمي ولا إلى العقل فلا يصح أن نسحب هذا الحكم على الإسلام لأن الإسلام ليس ديناً وسياسة فقط. ولكنه دين وسياسة ومنطق وعلم. . .
هذه يا سادتي حقيقة ظاهرة ظهور الشمس، ولكن أكثر شبابنا لا يرونها، خفيت عنهم، وغربت هذه الشمس من أفق تفكيرهم، فتخبطوا في ظلام ليل أليل، فلذلك ترونهم يأخذون كل ما يقوله الإفرنج عن دينهم فيطبقونه على الإسلام، على الاختلاف بينهما، والتباين بين طبيعتيهما. . .
ولعل من هذا الباب تسمية العلماء برجال الدين وإنها لتسمية باطلة فشت على ألسنة وعم بلاؤها ونسى المسلمون أنهم كلهم رجال الدين. دين الإسلام، دين المساواة والسمو والعمل، ليس فيه طبقات مميزات من طبقات، وليس أحد أحق به من أحد، وليس فيه جماعة هم وكلاء الله، يحلون ويحرمون، وهم أصحابه الأدنون وأهلوه الأقربون، وغيرهم الأبعدون، ولكن المسلمين كلهم (أبناء النبي وعترته والفارسيين والصينيين) وكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله. . . لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى والعلم والقيمة الشخصية:(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى). . . (يا فاطمة بنت محمد، لا أغنى عنك من الله شيئاً). .
فلا تقولوا للعلماء رجال الدين، ولا تحملوهم وحدهم واجبات الدين، فان رجال الدين هم كافة المسلمين. ليس عندنا إلا العلم والتقوى، فمن كان عالماً عظمناه وسألناه، ومن كان تقياً أجببناه وأجللناه، ومن أخطأ وحرف رددناه أو ردعناه كائناً من كان ذلك المخطئ وذلك الناقد. ليس الناقد بأقل من تلك العجوز، وليس المنقود بأجل من عمر!