على هذا الاعتبار كان الشعر سجلاً خالداً لحوادث التاريخ، وعظائم الدهر، وروائع الأيام؛ وعلى هذا الاعتبار اندفع الشعراء قديماً يتحدثون عن زفاف المأمون إلى بوران، وهو زفاف له في التاريخ خبر مشهور، وهو يشبه زفاف الفاروق في كثير من الأفراح والمعالم؛ وعلى هذا الاعتبار أيضاً انتظرنا وانتظر الناس ما وراء شعرائنا في اليوم الحافل، والزفاف الذي لم يعهد مثله في عصر من العصور، وقلنا: لعلهم يتركون في ذلك للأجيال المقبلة صفحة قوية بروعة التصوير وإبداع المعاني، وجمال الأسلوب، وانسجام الخيال، وسلامة الذوق
ولقد قال شعراؤنا في يوم الزفاف ما وسعهم القول، ففاضت أنهار الصحف بكثير من الكلام المقفى المجنح الأشطار مقدماً بالتقاريظ والتزكية، وأقيمت حفلات متعددة (أراق) فيها الشعراء على (مناضد) الشعر ما أعدوا لذلك من كل (خريدة عصماء) رسم حدودها الخيال وياله من خيال. . . ونسق وشيها الذوق وإنه لذوق. . . وأبدع معانيها العقل وأي عقل. . . وقد سمعنا الجمهور يهتز لكل ذلك طرباً، ويصفق من العجب تصفيقاً عالياً مُدوياً أدمي الأكف، وصك المسامع، واضجر الأعصاب. ولو كان الحكم الأدبي ومقاييس الشعر هي على ما يرى الجمهور وتقدّر الصحافة لكان شعراؤنا على ذلك قد بلغوا الذروة التي لا تطاول، ولكان شعرهم آية الإبداع والاختراع، فمن حقه البقاء والخلود والإجلال والتقديس، ومن الواجب علينا أن نعتز به ونفاخر، وأن نكتبه في (القباطي) ونعلقه بأستار. . . بأستار ما لا أعرف!!
ولكن الحكم الأدبي في تقدير الفن والأدب إنما هو للذي يستطيع تعليل حكمه كما يقول العقاد. فإذا عجز عن الحكم استطاع أن يعلل عجزه بكلام سائغ في الأفهام، ولا يكون ذلك إلا ناقد ذو ثقافة أدبية واسعة، وطبيعة فنية موهوبة، ونظر مميز فاحص. فهو الذي يمكنه أن يميز الجوهر من الخزف، والدر من الصدف؛ وهذا التمييز هو المعول عليه في التقدير الحق، وهو الحكم الأدبي الصحيح الذي يرمقه المعنيون بدراسة التواريخ الأدبية للأمم والأفراد، ثم هو الذي سيبقى على الزمن على حين تطير الفواقع والقواقع، وتموت التقاريظ الأدبية الرخيصة، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. وأنت