واضحة سافرة كأتم ما يكون الوضوح والذي مست ومضة من عبقريته القلب البشري فأنارت أكثر نواحيه، وهو مولع منذ حداثته بدراسة النفس البشرية والغور إلى أعماقها، ومن غير شكسبير يهديه السبيل؟ لذلك كان إذا تناول كتاباً من كتب القانون ساعة أو بعض ساعة ثم ألقاه عمد إلى مأساة أو ملهاة من آثار شكسبير فأكب عليها ونسي كل شيء سواها؛ فإذا أتى عليها فكر وفكر وظل شاخصاً ببصره في ثرى الأرض أو في لازورد السماء كأنما أخذته عن نفسه حال. . .
وكانت له في بعض آثار بيرون متعة، ومن بينها قصته العظيمة (دوجوان) وهو بين هذا وذاك يقلب صفحات التاريخ العام وصفحات تاريخ بلاده يستزيدها معرفة بأحوال الأمم ويرى فيها خطى البشرية في شتى مراحلها. أو ليس الزمان يسير به ليضعه بعد سنوات على رأس أمته؟
ومن عجيب أمر هذا العصامي أنه تناول فيما تناول من الكتب كتب العلوم وأخذ يدرسها وقد جعل لها ساعات من فراغه، فهذا علم النبات له نصيب من جهده، وذاك علم الحيوان له نصيب، ثم هذه الكهربة تصيب من عنايته حظاً ليس باليسير!
ولكن فيم العجب؟ وهل تضيق العبقرية عن شيء؟ أني وإن كنت أسلم بما للبيئة من خطر وبما للميل النفسي من اثر في توجيه المرء، أعتقد أن العبقرية إنما هي فوق ذلك، وأن العبقري مهما تناول من الأعمال فإنما ينفذ إلى لبابها بقوة نفسه. وهذا لنكولن لو لم يكن محامي أو رجل السياسة ما قعد به شيء عن أن يكون الشاعر الفحل! أو لو أنه أفرغ إلى العلم جهده وجعل للدراسة والتحصيل وقته لكان لنا منه العالم الفذ أو الفيلسوف المبتدع. ولقد تأتى له أن يقول الشعر في بعض المناسبات فجاء شعره صورة من نفسه تشعرك بساطة العظمة والسمو
وإنك لتحس الشعر في نفسه وتراه ينظر إلى الحياة والناس نظرة الشاعر؛ ولكن خياله لا يطغي على عقله كما أن عقله لا يأتي على نوازع قلبه. وإني أراه في ذلك أكثر الناس شبهاً بجوت شاعر ألمانيا الأكبر، ذلك الذي كان يجمع بين اللمعة الخيالية والنظرة العلمية والحكمة العملية. . .
وكان ابراهام قد بلغ أشده واستوى، وأخذت نظرته إلى الحياة والناس تزداد عمقاً وهو في