للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أول العقد الخامس؛ وصار يحس كأن شيئاً يقلقه، شيئاً خفيّاً لا يدرك كنهه يقلقه ويحرك نفسه وينقبض له صدره أحياناً؛ فهل أخذت السياسة تدب في نفسه من جديد فهو يتأهب ويتحفز؟

ولاحظ أصحابه أن إمارات الحزن التي ارتسمت على وجهه منذ حداثته أخذت تزداد وضوحاً، فهو على الرغم من عذوبة روحه في أحاديثه وطلاقة بشره في قصصه، تنطوي نفسه على كثير من الهم لا يعرف مبعثه؛ وهو إذا خلا إلى نفسه فكر وأمعن في التفكير، وقد ترَّبد وجهه وانعقدت عليه كآبه مخيفة ينزعج لها خاطر من يراه؛ وكثيراً ما وافاه صديقه هرندن وهو على هذه الحال؛ وكثيراً ما سمعه يغمغم بمثل أنين المحزون. . .

وهو يدعي منذ زمن (أيب العجوز) أطلقها عليه الناس وهو في ريعان فتوته وربيع حياته، وذلك لما كان يظهر على وجهه من تجاعيد هي من أثر الهم لا من أثر السنين؛ وكان يسره أن يستمع هذا الاسم الجديد كما كان يسره أن يسمعهم يدعونه باسمه الآخر (أيب الأمين)

ما باله اليوم مهموماً وقد بسط الله له رزقه كثيراً حتى لقد باتت تجدي عليه المحاماة - على قناعة في الأجر - ما يزيد على خمسمائة من الجنيهات كل عام؟ أجل ما باله مهموماً وقد استطاع أن يلقي عن كاهله ذلك العبء الذي آده حمله زماناً، فلقد خرج من الدين الأهلي؟ يا ويح نفسه من هذا الهم الدفين الذي يتزيد منه على الأيام. . .

ليس غير السياسة يلقي بنفسه في غمرتها لتقوم أحداثها بين نفسه وبين همومها. ليس غير السياسة تشغله عن وساوسه وتباعد بينه وبين امرأته التي ما برحت تنغصه وتضايقه في غير موجب

إن زوجه تعيش اليوم من وراء كده في رغد؛ فهو يلقي إليها كل ما تصل إليه يده لا يسألها إلا أن تدفع له ثمن ما يطلب من الأشياء وهي قليلة؛ وما كانت له بالمال حاجة وهو الذي لا يعرف أبهة المظهر ولا تغتره شهوات الحياة. حسبه من المال ما يسد به رمقه ويستر به جسده، وأمر ذلك موكول إلى امرأته؛ ثم ما يفرج به الكرب عن بعض المساكين وهو يفعل ذلك في كثير من الأحيان على كره منها. أما هي فلا ترضى بغير فراهة المظهر وأناقة المنظر؛ تروح وتغدو في مركبة هي اليوم بعض ما تملك، وما رأى الناس زوجها في تلك المركبة قط؛ وتلبس من الثياب ما تحكي به أهل باريس، وتقتني من الأثاث ما تدل به على

<<  <  ج:
ص:  >  >>