غير معقول أن يبلغ الرافعي رحمه الله ما بلغ من حسن السمعة وبعد الصيت في عالم الأدب العربي ثم لا يكون له من كل تلك الصفات حظ يفسر ما نال من صيت حسن وتقدير كبير عند جمهرة الأدباء رغم بعض العيوب البادية في بعض ما كتب من مثل (على السفود) ورغم ما في بعض كتاباته من صعوبة أو غموض. فالرافعي نال ما نال من حظوة ومكانة في عالم الأدب العربي رغم هذه العيوب، ثم نال ذلك غير مؤيد بمال ولا جاه ولا سياسة، وهذا معناه عند الناقد المتزن أن أدب الرافعي لابد عند التصفية أن تبقى منه بقية. كبيرة صالحة تكفي لتمجيده إن لم تكف لتخليده. وإذن يكون عمل النقد الأدبي أن يميز تلك البقية ويُجليها للناس تراثاً طيباً يضم إلى ما خلفت القرون من التراث العربي الأدبي الطيب. لكن مثل هذا الناقد يحتاج من قوة العقل، وسعة الاطلاع، ومحبة الحق والخير، ومجانبة العصبية والهوى، إلى ما لا تنبئ عنه تلك المقالات
إن أظهر ما تنبئ عنه تلك المقالات أنها نتاج العاطفة قبل أن تكون نتاج العقل. فالعاطفة الجامحة أوحت بكتابتها، والعاطفة الجامحة لونت الوقائع لقل صاحبها حين سخرته لحياكة ذلك النقد طبق وحيها. ومدار هذه العاطفة هو حب العقاد وبغض الرافعي: حب العقاد حب مفتون، وبغض الرافعي بغض مجنون. فلا مدح أكبر من أن يفيضه على العقاد، ولا ذم أوضع من أن يكيله للرافعي، وكأنه يعتذر في الحالين من التقصير. ولا عليه في حب العقاد أو غير العقاد أسرف في الحب أو اقتصد، بل لا عليه في بغض الرافعي أو غير الرافعي ما بقى بغضه سلبي الأثر؛ أما إذا حركه الحب أو البغض إلى العدوان على من يبغض في سبيل من يحب، فعندئذ تبدأ تبعته، وعندئذ تجب مراقبته ثم محاسبته على ما يكتب أو يقول خصوصاً إذا أراد أن يستتر بالنقد مبالغة في الكيد أو احتماء من القانون
لو كان للنقد الأدبي في مصر أو في العالم العربي قوامون يغارون عليه ويرعونه لتهيب اقتحامه من لا يحسنه، ولما أقدم على نقد مثل الرافعي من لا يعرف أو لا يراعي أوليات النقد. إن من أبسط أوليات النقد الإحاطة بالموضوع. وصاحبنا الذي لا يعجبه مذهب الأقدمين في النقد، ويريد أن يشق للناس طريقا جديدا، يقدم على نقد الرافعي فيما زعم من غير أن يحيط بأدب الرافعي أو يحاول أن يحيط به. وهو فيما يظهر لا يحس أنه اقترف بهذا جرما لأنه يعترف به في غير اعتذار ولا حياء. يقول في مقاله الثالث إنه كتب كلمته