وإذن يسقط السبب الوحيد الذي يرجع إليه مناظرنا في إيمانه بتفوق ثقافة الشرق الغيبية.
ولنا أن ننظر مع ذلك في حقيقة الاتجاه الغيبي في المجموع البشري كحالة طبيعية تمر بها الجماعات في تطورها التاريخي وارتقائها الطبيعي، مجردة عن تلك الحالات التي تقيمها اليوم في كيان المجتمع العربي على وجه عام، والمصري على وجه خاص. وسنجد أن الحالة الغيبية مبعثها الجهل بأسباب الأشياء الطبيعية وعللها الكونية، فيجنح العقل إلى ما وراء الطبيعة والكون محاولاً أن يستنزل منها تفسيرات وتعليلات للحالات التي يخلص بها من حياته في العالم المنظور. وأظن أن أحسن ما يمكن أن أقدمه لمناظري الفاضل تاريخ النزاع بين اللاهوت والعلم، ففي كل صفحة من صفحات هذا التاريخ يقع على ما يؤيد فكرتنا.
يقول الأستاذ (بيتي كروزيار):
(لقد كف الناس عن القول بأن المذنبات نذر إلهية عندما عرفوا أسباب ظهورها وعللوا وجودها. وكفوا عن القول بأن الصواعق نتيجة غضب إلهي عندما عرفوا حقيقة الكهربائية الجوية، وعندما استكشف (فرنكلين) مانعته المشهورة. ورجعوا عن القول بأن الجنون والمس عائد إلى أعمال السحرة والمشعوذين وأنصار الشياطين عندما دلهم الطب على أسبابها العصبية. ورفضوا الاعتقاد بأن اللغات منشؤها بابل عندما وضعت قواعد مقارنة اللغات).
نعم لقد كف الناس في العالم المتمدن عن كل هذا، وآمنوا بسنة (كُنْت) من أن الحوادث العالمية والظاهرات الطبيعية لا بد أن تعود إلى سبب طبيعي، وأنه من المستطاع تعليلها تعليلاً علمياً مبناه العلم الطبيعي. من ذلك اليوم انهار قائم اليقين بما بعد الطبيعة للإفصاح عن حقيقة الظاهرات الطبيعية، وكان نتيجة ذلك أن خلص العالم المتمدن بعقلية وثقافة جديدتين طابعهما يقيني إثباتي. ونحن أن كنا نقول باستحالة الأخذ بالعلم الأوربي مع الاحتفاظ بالثقافة الشرقية من حيث أن طابعها غيبي، فذلك مرده أن العلم الأوربي قائم على عقيدة أولية في إمكان الكشف عن سبب طبيعي لكل الحوادث العالمية والظاهرات الطبيعية.
٦ - يظهر أن المناظر الفاضل حين أراد أن يرد على القول بوجود أصل فرعوني في