فتزلزل البنيان وتقوض الأركان. شهدت العظمة الشامخة والثروة الباذخة وشهدت الذلة المستخذية والفقر المستكين؛ شهدت نوازع الاستبداد وشهدت دوافع الحرية؛ شهدت مواقف البطولة والصدق؛ وشهدت مخازي الدس والبهتان. . . شهدت مصر ذلك كله وشهدت زيادة عليه مثل ما تشهد الفريسة تجمعت عليها الذئاب وأوهنها طول الدفاع والجلاد
أراد إسماعيل أن يسبق عصره فيما يطلب من أوجه الكمال، فلن يجمل بمصر وهو واليها أن تكون قطعة من أفريقيا، ولا أن تكون جزءاً من تركيا، ولن يهدأ له بال حتى تنتسب مصر إلى أوربا، وحتى تحطم الأصفاد وتطرح عن عنقها نير الاستعباد
لم يمض من عهد هذا الأمير الفذ اثنا عشر عاماً حتى غمر مصر فيض من الإصلاح، وتهيأ لها من أسباب الرقي ما لم يكن ليتهيأ مثله في أقل من قرن إذا سارت الأمور سيرها العادي. . . ففي تلك الفترة الوجيزة وصل بين البحرين وشقت الترع الطويلة تحمل إلى أنحاء الوادي من مياه النهر وغرينه ما يدرأ عنها رمال الصحراء. ومدت سكك الحديد وأسلاك البرق، ونظم البريد ومهدت السبل وعقدت الجسور، وأصلحت الموانئ وأقيمت المنائر، وشيدت المصانع وافتتحت دور العلم للبنين والبنات وعني بالمتحف
وفي تلك الفترة تقلص نفوذ السلطان، وأحاطت بوالي مصر مظاهر السيادة فلقب بالخديو وسمح له بمنح الالقاب، وأطلقت يده فأصلح القضاء وأدخل على النظام الإداري كثيراً من الإصلاح وفي تلك الفترة سارت القاهرة تستبدل حياة بحياة، ومظهراً بمظهر، فتتخلص ما وسعها الجهد من أفريقيا ولا تني تقترب من أوروبا، وراح الخديو العظيم ينشر فيها من مظاهر همته ما جعل أعماله في هذا المضمار من عجائب القرن التاسع عشر، وما برحت القاهرة طول عهده غاصة (بالمونة والأحجار) تلك التي كانت هوى الخديو ومسرة فؤاده
ولكن إسماعيل وا أسفاه أنفق في سبيل ذلك المجد ما زاد على خمسين مليوناً من الجنيهات لم يكن لديه منها شيء يذكر. . . ولذلك لم يلبث أن رأى مصر التي أراد أن تكون قطعة من أوربا تساق على رغمه لأن تكون ملكاً لأوربا! فمن أوربا استدانت تلك الملايين؛ ولما عجزت عن دفع دينها كانت رهينة لذلك الدين.
أين كان شريف حين أخذت مصر في سياسة الاستدانة؛ وكيف فاته وهو الأريب الحاذق ما كانت تبيت إنجلترا من غدر لاقتناص مصر؟ أو لم ير أنها كانت تقيم من أموالها حول