فكان يدرس اللغات في بعض المدارس الليلية في أوقات فراغه، وبهذه الطريقة حصل على وظيفة رفيعة في إحدى شركات الملاحة بلندن. وكان المستقبل يبدو أمامه زاهراً، حتى عالجته المنية وهو لا يزال في العقد الثاني من عمره، فكان موته ضربة قاضية على قلب الأم، حتى كانت ما تفتأ تكرر مقدار شوقها إلى ذلك اليوم الذي تموت فيه حتى تقابل أرنست
بعد أرنست أتت إميلي ثم أدا، وأخيراً دافيد هربرت لورنس في ١١ سبتمبر سنة ١٨٨٥. وكان في طفولته لا يميل إلى الألعاب التي كان يغرم بها من هم في سنه لأنها كانت من ابتكار غيره، وكان يفضل عليها الألعاب التي يبتكرها هو، لأنه ما كان يكره شيئاً قدر كراهيته للتقليد. ولما بلغ السادسة عشرة تعرف إلى عائلة تشمبرز حيث قابل حبيبته الأولى التي وصفها في كتابه (الأبناء والمحبون) تحت اسم ميريام. جذبته الفتاة بعينيها العسليتين الواسعتين، وشعرها الأسود المموج، وميلها إلى الرزانة والجد على خلاف بنات حيها، فضلاً عن أنها كانت توليه أذناً صاغية عندما يتكلم معها عن آرائه الغريبة. لذلك كانت زياراته لبيت حبيبتهٍ تزداد يوماً بعد يوم لدرجة أقلقت بال الأم وأقضت مضجعها حتى إنها لم تتمالك نفسها ذات يوم أن قالت له في تهكم وغيظ: إن الأولى به أن يجمع ملابسه ليقيم مع حبيبته دواماً
وعلى رغم أن لورنس لم يعترف لحبيبته بحبه لها في صراحة إلا أنه كثيراً ما كان يردد نظريته التي تقول: إن كل عظيم خلقته امرأة؛ وأنه كان يرى فيها المرأة التي سوف تخلق عظمته. ولكن كان لورنس حساس القلب إلى أقصى درجات الحساسية لم يفته ما عانته الأم المسكينة من زوجها القاسي فتعلق قلبه بأمه وفاض بحبها، وعلى العكس من ذلك كان شعوره تجاه أبيه. وقد بادلته أمه حباً بحب حتى تعوض ما فاتها من حب زوجها. ولقد كان هذا الحب هو علة لورنس الأولى وداؤه الذي ذاق من أجله الأمرين، ولكنه في الوقت نفسه كان سبباً في توجيه تفكيره إلى درس موضوع لم يسبقه إليه أحد. كان لورنس يشعر في قلبه بحبين ينازع أحدهما الآخر ويعمل على استئصاله، وكان كل منهما من القوة بحيث بات لورنس ضحيتهما ردحاً من الزمن. فهو يحب أمه، وفي الوقت نفسه يحب ميريام. ولما كان حبه لأمه هو أول حب طرق قلبه فقد كانت حاجته شديدة إلى امرأة تحبه حباً قوياً