فيها سامية، وجاهاً له عريضاً. . . وفارق أهلاً فيها وصحباً، وعشيرة كبيرة، وأموالاً كثيرة، وذهب يخوض اللجج والبحار، ويجوب السباسب والقفار، ليقْدَمَ بغداد، لا طمعاً بجاه يناله، أو مال يحصله، أو صديق يزوره، أو امرأة يخطبها، أو لذة يطلبها، ولكن رغبة في العلم وحباً للحديث، وشوقاً إلى لقاء أبي عبد الله!
فلما سمع الفندقي اسم أبي عبد الله انتبه وتبدلت حاله، وطفت على وجهه خيالات من الحب العظيم، والإجلال الكبير، الذي يحتفظ عليه قلبه لهذا الإمام، وقال بلهجة أرق، ونغمة أعذب، قد ذاب فيها حقده على بقى بن مخلد في محبته لأبي عبد الله - أتقول إن الرجل قدم من الأندلس ليلقى أحمد بن حنبل؟
- نعم.
- ياله من شرف في الدنيا والآخرة! وهل لقيه؟ ألا تخبرني كيف لقيه؟
قال: إنه نزل عليك في هذا الفندق فألقى فيه متاعه، وذهب يطلب أبا عبد الله؛ وكان ذلك أيام المحنة والناس لا يجرئون على ذكر أسمه، وأبو عبد الله منفرد لا يلقاه أحد إلا أخذته عيون السلطان فناله أذى شديد. . . فلما علم الرجل بذلك ناله من الغمْ ما الله عالم به، فأمّ المسجد الجامع في الرصافة يسمع من المحدثين فما زال يمرّ بالحلق حتى انتهى إلى حلقة نبيلة، فوقف عليها، وكنت أول من رأى زيّه الغريب، فسلمت عليه أونس غربته؛ فسألني: من هذا الشيخ؟
قلت: يحيى بن معين، وكان يعرفه، ومن لا يعرف يحيى أبن معين؟ فوقف ساعة، ثم لمح فرجة قد انفرجت فقام فيها، وكان الشيخ يكشف عن الرجال فيقوي ويضعف، ويزكي ويجرح، فقال:
- يا أبا زكريا - رحمك الله - رجل غريب نائي الديار، أردت السؤال، فلا تستخفني
فقال الشيخ: قُلْ
فجعل يسأل عن بعض من لقي من أهل الحديث - وكان قد لقي منهم خلقاً كثيراً - فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسأله عن هشام بن عمّار وكان قد أكثر الأخذ عنه، فقال الشيخ:
- أبو الوليد هشام بن عمار صاحب صلاة دمشق، ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر ما ضرّه شيئاً لخيره وفضله