بحدوده، انما هي كسائل لطيف اذا لوَنْتَ نقطة منه بلون مشع اللون في سائر السائل، واذ سخنت جزءا منه وزع حرارته على السائل كله حتى يتعادل - بل الرأي والنظرات ألطف من ذلك وأدق وأرق. فاذا رقى النظر الى شيء أثر ذلك رقيا في سائر النظرات. فكل نظرات الحياة متأثرة بنظرك الى نفسك والعكس، بل نظرك الى الله تعالى متأثر بنظركُ الى عالمك المحيط بك - وهذا ما يجعل الثقافة في أية ناحية من النواحي الأدبية والعلمية يؤثرا أثراً كبيراً في النواحي الأخرى حتى ما تظن أن ليست له صلة به. وقد أصاب صديقي يوما اذ كان يقول (ان رقى الامة في الموسيقى وتذوقها الصوت الجميل والغناء الجميل يجعلها تتعشق الحرية وتأنف الضيم وتأبى المذلة) فمحيط المخ والعقل والشعور محدود، كل ذرة فيه تتأثر بأقل شيء وتؤثر بما تأثرت - والفكرة الجديدة قد تدخل في الفكر فتقلبه رأساً على عقب وتجعل من صاحبه مخلوقاً جديداً يقل وجه الشبه بينه وبين ما كان من قبل، فتجعله في أعلى عليين أو أسفل سافلين.
ان كان هذا صحيحاً، وكانت قيمة الثقافة الذاتية في مقدار ما رفعته في المثقف من وجهة النظر الى الاشياء وتقويمها قيما جديدة اقرب الى الصحة، أسلمنا ذلك الى نتائج خطيرة - فدين خير من دين بمقدار ما تحاول تعاليمه من رفع مستوى النظر الى الله تعالى والى الحياة - وعلم خير من علم باعتبار ما يؤدي اليه من نظر راق صحيح - وثقافة الانسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما اوحت اليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال.