أهم قيمة - في نظري - لثقافة المثقف هي كيفية نظره الى هذا العالم. ذلك بأن عيون الناس في نظرها الى الأشياء وحكمها عليها ليست سواء، فعيونهم الحسية وإن اتفقت في الحكم على الألوان بالسواد والبياض والحمرة والصفرة، وإن اتفقت في الحكم على الأبعاد قرباً وبُعداً، وإن اتفقت في الحكم على الأحجام كبراً وصغراً، فان العيون النفسية لا تتفق في نظرها ولا حكمها، فالشيء في نظر الأبله غيره في نظر الفيلسوف، وبين هذين درجات لا حدّ لها، وليس للشيء الواحد معنى واحد، بل معان متعددة تتسلسل في الرقي، والناس يدركون من معانيه بحسب استعدادهم وثقافتهم وأذواقهم.
وقد حكموا أن عيسى عليه السلاام مرّ هو وأصحابه بجيفة فقالوا: ما أخبث رائحتها! وقال هو: ما أحسن رياض أسنانها! ونظر الرجل العادي الى حديقة مزهرة غير نظر الاديب الفنان، هذا ينظر اليها فيقرأ فيها من المعاني والجمال ما يمتزج بنفسه، ثم يسيل على قلمه كأنه قطع الرياض - وذاك ينظر اليها نظرة مبهمة، لا تُسفر عن معنى، ولا تُعْرف لها وجهة، نظرة بليدة جامدة، لا يسعفها ذوق ولا تخدمها قريحة.
ومثل هذا في كل شيء يعرض على العين، فكل شيء في السماء وفي الأرض لا يحمل معنى واحدا بل معاني متعددة، وقيمة الثقافة ان تنقل العين من أنظار سخيفة ومعان وضيعة الى أنظار بعيدة ومعان سامية. فالاديب اذا لم ينظر في المرأة الا الى حسن جسمها وتناسب أعضائها لم يكن أديباً مثقفاً وقلنا له كما قال المتنبي
وما الخيل الا كالصديق قليلة ... وان كثرت في عين من لا يُجرّب
اذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
ففرق كبير بين ان تنظر الى المرأة كشيطان وان تنظر اليها كأنسان وان تنظر اليها كملك - وفرق كبير في كل شيء في الوجود يعرض على أنظار الناس
وكل انسان له نظراته في العالم من اسفل شيء إلى أرقى شيء، من مادة تحيط به ومال يعرض عليه وأعمال تتعاقب أمام نظره واله يعبده - هو في كل ذلك قد يكون سخيفا في نظراته، وضيعا في رأيه، وضيعا في حكمه وقد يبلغ في ذلك كله من السمو منزلة قل أن تنال. وعمل الثقافة ان تنتشله من تلك النظرات الوضيعة الى هذه النظرات السامية
وليست نظرات الانسان الى الحياة قوالب من طوب، كل قالب مستقل بنفسه، محدود