أما (أحمس) فقد صاغ الفكر في نسق يتسق وما كان يحتاج إليه معاصروه، فلمس ببراعة حاجات هذا العهد، وعرف كيف يعالج ما يعرض له من مسائل بتفكير إنساني منسق، وبمجهوده ومجهود من تقدموه ارتقى الإنسان وصار يثوارث المعرفة جيلاً عن جيل، واحتفظت الإنسانية بطابع من التقدم عهداً إثر عهد، ونمت المعارف فوصلت إلينا سلمية قوية - أما (بيران) فقد وجد ميراثاً علمياً سليماً كانت أعمال (أحمس)، والإغريق من بعده من أهم ما مهد لهذا الميراث العظيم، فلا يستضعف أحد ما ذكرنا من حساب (أحمس) لما تزدرده الإوز وتلتهمه العجول، وغير ذلك مما كان شغله الشاغل عندما نذكر مشاغل إنسان اليوم جلية فيما قام به (بيران) من تعداد للذرات ومعرفة لأقدارها، فعند ظني أن ما عرفه الأول يصل إلى النصف من كل ما ورثناه من علوم، وأننا لسنا إلا على أبواب مرحلة جديدة في تاريخ الفكر البشري
ولندع الآن حديثاً أرجو أن يكون قد بعث في النفس صورة من الماضي البعيد في شيء من التأمل لنعود لبيران فنذكر عمله الإنشائي ونرى معاً ماذا أفاد من المسائل الرئيسية الثلاث الخاصة بالغازات التي ذكرناها في المقال السابق: المسألة الأولى أن ثمة علاقة تربط الضغط والحجم والحرارة للغاز، بحيث أن حاصل ضرب اثنين من هذه المتغيرات يساوي المتغير الثالث مضروباً في عدد ثابت؛ والثانية أن في الحجم الواحد يوجد في الضغط الواحد والحرارة الواحدة العدد ذاته من الذرات الغازية مهما اختلف نوع الغاز؛ والثالثة هو تَغيّر الضغط في عامود غازي وفق متوالية هندسية
ولقد ذكرنا أنه قد أدت هذه المسائل الثلاث إلى استنباط علاقة أوردناها في مقالنا السابق علاقة نعرف منها النسبة الواقعة بين ضغطين في غاز في موضعين تفصلهما مسافة رأسية، إذا عرفنا الوزن الجزيئي للغاز والعجلة الأرضية وثابت الغازات والحرارة المطلقة، ولقد ذكرنا أن النسبة الواقعة بين ضغطين في الغاز في موضعين مختلفين هي النسبة بين عدد الجزيئات في هذين الموضعين، بحيث إذا عرفنا الضغط أو عدد الجزيئات عند مكان معين أمكننا أن نعرف الضغط أو عدد الجزيئات عند مكان يرتفع عنه مسافة معينة، وقد ذكرنا فرض (أفوجادرو) القائل بأن هذا العدد للجزيئات الموجود في الوزن الجزيئي - أي الموجود في الحجم الواحد لجميع الغازات هو عدد ثابت لا يتغير - يسميه