ومن أجل هذا، زهدت في البراعة الخطابية، وأعددت خطبتي، وقُدِمت بها مكتوبة بلغة صريحة، لتكون حجة باقية على صحة الرأي الذي تعصبت له وانحزت إليه
أنا أرى أن الأدب لا يزدهر إلا في عصور الفوضى الاجتماعية، فما هي الحجج التي تؤيد هذا الرأي الجريء؟
أستطيع أن أقول إن الفوضى الاجتماعية ترجّ الأذهان رجاً عنيفاً، وتفتح أمام الأذواق أبواباً ومذاهب، وتقهر العقول على التفكير في مصاير الإنسانية عند اضطراب المجتمع
وأستطيع أن أقول إن الفوضى هي التي مهدت السبيل إلى ظهور الحكمة على ألسنة الحكماء، ولو شئت لقلت إن النبوات لم تظهر إلا في الأوقات التي غلبت فيها الفوضى على المجتمع
فيكم من قرأ القرآن، وفيكم من قرأ التوراة، وفيكم من قرأ الإنجيل؛ فهل فيكم من يجرؤ على القول بأن تلك الكتب المقدسة خلت من الثورة على اضطراب المجتمع؟ وهل فيكم من ينكر أن أعظم الجوانب في تلك الكتب هي الجوانب الخاصة بالتشريع؟
ولمن توضع قواعد الشرائع إذا اطمأن الأنبياء إلى أن المجتمع في أمان من شر الفساد والانحلال؟
وما قيمة الفضائل التي تمدّح بها الصالحون إذا صح أن العالم صحيح الأديم وأنه لا يعرف التمييز بين الفاضل والمفضول، ولا يشهد الفرق بين الصحة والاعتلال؟
وهل سميت الفضائل فضائل إلا بالقياس إلى الرذائل؟ وهل تصور الناس معنى الحياة إلا بعد أن شهدوا صورة الموت؟ وهل أدركوا رَوح اليقين إلا بعد أن أدركوا قلق الارتياب؟
اسمعوا كلمة الحق
إن سلامة المجتمع من الفوضى والاضطراب لا تصل بالناس إلا إلى غاية واحدة: هي الأمان المطلق، والأمان المطلق يقود الناس إلى هاوية البلادة والغفلة والحمق
وأنا لا أنكر أن السعادة قد تكون من نصيب الأحمق والغافل والبليد، ولكني أنكر أن يكون التفوق في الأدب من نصيب هذا الطراز من (السعداء) فالأدب فن من المحنة باصطراع العقول، واصطخاب الأهواء، واضطرام الأباطيل، وهو التعبير الصادق عما يثور في المجتمع من الاقتتال العنيف بين الرشد والغيّ