ولرأيت الأزهر يكتب صفحة خالدة سوف تسجل في تاريخه العلمي بيضاء ناصعة، وسوف يتحدث عنها الأبناء والأحفاد كما نتحدث نحن عن صفحات الفخار في ماضينا المجيد!
لم يكن الإمام المراغي في هذه الأيام رئيس هيئة الامتحان فحسب، ولو أراد ذلك واكتفى به لمرت هذه الأيام كما تمر غيرها من أيام الأزهر، لا تلفت نظراً ولا تثير عبراً، ولكنه أراد أن ينتهزها فرصة يضرب فيها للأزهريين جميعاً أروع الأمثال في شتى نواحي العلم والفقه والتأليف والإفصاح!
فرأيناه وهو يناقش رسالة (النسخ) يأخذ على صاحبها أنه نقد أبا مسلم الأصفهاني نقداً مراً، وتعصب عليه تعصباً ظاهراً، لا لأنه هدم فكرته، ووصل إلى أنها باطلة بالدليل العلمي الواضح، ولكن لأنه يخالف جمهور العلماء وأكثرية المفسرين القائلين بوجود النسخ في القرآن.
وجه الأستاذ الأكبر هنا درساً نحب أن يلتفت إليه الأزهريون وأن ينتفعوا به، فإنه قال للطالب: لقد كنت قاسياً على أبى مسلم في غير ذنب جناه، ولا شطط صار إليه، فإن هؤلاء الذين قالوا بالنسخ في القرآن مثلوا له بآيات بلغت عدتها عشرين آية، فجاء الفخر الرازي وناقشهم في تسع منها أو ثمان فظهر له أنها لا ينبغي أن تعد من باب النسخ، فإذا جاء أبو مسلم ونقض بقية العشرين مبيناً بالدليل والبرهان ما صار إليه، أيكون مستحقاً لهذا اللوم العنيف، وكيف تحرمون على أبى مسلم ما تبيحون للفخر الرازي؟
ورأينا الأستاذ الأكبر في مناقشة لرسالة الزكاة، ثم في مناقشته لرسالة الحجر، مثال العالم الذي درس نظم المعاملات دراسة موضوعية وافية، وأدركها إدراكاً صحيحاً، فأصبح بصيراً بكل ما حوله، لا يُخادَع، ولا يُغالَط فيه.
تجلى هذا المعنى مرة في رسالة الزكاة، فقد أراد الطالب أن يعتبر (البنكنوت) من جنس الحوالات بالديون، فسأله الأستاذ الأكبر: هل تحققت في هذه الأوراق شروط الحوالة بالدين من رضا المحال والمحال عليه، حتى تكون حوالة صحيحة؟ ثم أفاض في شرح اقتصادي تاريخي لنظام التعامل بالورق قديماً وحديثاً جلّى به المسألة للسامعين، وضرب بهذه الدراسة الوافية أحسن الأمثال لمن يريد أن يصل إلى استنباط فقه جيد مستقيم!
وتجلى هذا المعنى مرة أخرى في رسالة الحجر، فقد قرر الطالب أن قانون المجالس