والإعراض. إذن لكانت جنازته رسمية تنفق عليها الدولة، ويمشي فيها رجال الدولة، ويخطب فيها كبار الدولة، ولكن مختاراً نشأ في مصر، وعمل في مصر، ومات في مصر فحسبه ما أتيح له يوم الأربعاء من توديع الذين كانوا من أصدقائه وأحبائه ليس غير.
ولا ننس ان رئيس الوزراء قد تفضل فندب من مثله في جنازة مختار. وهذا، وبالسخرية الأقدار، كثير جداً ينبغي أن يشكر لرئيس الوزراء. فقد ينبغي أن لا ننسى أن مختارا لم يكن من أنصار السياسة الرسمية، ولا من الذين يستمتعون بعطفها وحبها ورضاها، فكثير أن يتفضل رئيس الوزراء فيندب من يمثله في جنازة هذا المعارض وان كان صاحب فن، وأن كان قد انفق حياته كلها لمصر لا لحزب من الأحزاب ولا لجماعة من الجماعات. لا اكذب المصريين أن لنا في مثل هذه الأحداث والخطوب مواقف لا تشرفنا ولا تلائم ما نحب لأنفسنا من الكرامة، ولا تشجع العاملين على أن يعملوا. ومن الذي نسى موت الشاعرين العظيمين حافظ وشوقي وموقف السياسة منهما. ذهب المعارضون بحافظ، واستأثر المؤيدون بشوقي، ثم ذهب المعارضون بمختار منذ أيام، وضحى بالأدب والفن في سبيل الأهواء والشهوات، وظهر المصريون في مظهر العقوق الذي لا يليق بالشعب الكريم. لا اكذب المصريين انهم في حاجة إلى أن يرفعوا أنفسهم أمام أنفسهم وأمام غيرهم عن هذه المنزلة المهينة، انهم في حاجة إلى أن يرفعوا الأدب والعلم والفن عن أعراض الحياة، وأغراض الخصومة السياسية، لان في الحياة أشياء أرقى واطهر واكرم من السياسة وخصوماتها، والأدب والعلم والفن أول هذه الأشياء.
لقد هم أصحاب حافظ أن يخلد واذكر حافظ فلم يوفقوا. وهذا حافظ يخلد ذكر نفسه - ولقد هم المستاثرون بشوقي من رجال السياسة الرسمية أن يخلدوا ذكر شوقي فلم يفلحوا. وهذا شوقي يخلد ذكر نفسه. فهل بين المصريين من يهمون بحماية آثار مختار من الضياع وبتخليد ذكر مختار، وهل هم إن فعلوا موفقون إلى ما يريدون؟ أم هل تدخل السياسة في أمر مختار فتفسده كما أفسدت أمر حافظ وشوقي؟ سؤال مؤلم، ما كان ينبغي أن يلقى، ولكن انظر جوابه لن يكون طويلا، ولعله لا يضيف ألما إلى ألم، وحزنا إلى حزن.