بأن مختاراً هو الذي رد إلى مصر بعض حظها من المجد الفني، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً قد مكن مصر من أن تعرب عن نفسها وعما تجد من الألم والأمل بلسان جديد لم تكن تستطيع أن تصطنعه من قبل، وهو لسان الفن. وكنا ومازلنا نتحدث بأن مختاراً قد انطق مصر بهذه اللغة التي يفهمها الناس جميعاً وهي لغة الجمال، لغة الفن، بعد أن كانت لا تنطق إلا بهذه اللغة التي لا يفهما إلا جيل بعينه من الناس، وهي لغة الكلام. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً قد جدد في مصر سنة كانت قد رست ومضت عليها قرون وقرون. وهي سنة الفن، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختار قد لفت الأوربيين إلى مصر، أقام لهم الدليل على أن مطالبتها بالاستقلال لم تكن عبثاً ولا لغواً، وإنما كانت نتيجة لحياة جديدة، ونشاط جديد، وقد لفت مختار الأوربيين إلى ذلك في اشد الأوقات ملاءمة، في وقت الثورة السياسية. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً على حداثة عهده بالفن كان اسبق المصريين إلى إعجاب أوربا، ألم يعرض آثاره في باريس؟ ألم تتحدث صحف الفن عن مختار قبل أن تتحدث صحف الأدب عن كتابنا وشعرائنا؟ ألم تستقر أثمار مختار في متاحف باريس قبل أن تستقر آثار كتابنا وشعرائنا في مكاتبها؟ كنا نتحدث بهذا كله، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً قد ردإلى المصريين شيئاً غير قليل من الثقة بأنفسهم، والأمل في مستقبلهم والاطمئنان إلى قدرتهم على الحياة الممتازة الراقية. كنا وما زلنا نتحدث بهذا وبأكثر من هذا، ومع ذلك فقد قضى مختار آخر حياته شريداً أو كالشريد. وقد قضى مختار آخر أيامه في مصر منسياً أو كالمنسي وقد عبرت جنازة مختار مدينة القاهرة يطيف بها جماعة من الخاصة ليس غير!! نستغفر الله بل مرت جنازة مختار أمام التمثال الذي صنعه بيديه كما تمر أمام أي شئ لم يظهر على التمثال ما يدل على الحزن أو ما يدل على الاكتئاب، أو ما يدل على الشكر أو عرفان الجميل. وعبرت جنازة مختار مدينة القاهرة تجهلها الحكومة المصرية أو تكاد تجهلها، لم يمش في جنازة مختار ولم يقم على قبر مختار وزير العلوم والفنون. ولم يلق أحد على قبر مختار كلمة الوداع، وإنما كان الصمت يشيعه، وكان الصمت يواريه التراب. وكان الصمت يودعه حينما تفرق من حوله الأصدقاء. ولو قد مات مختار في بلد غير مصر لكان موته شأن آخر. ولو قد كان مختار فرنسيا أو إنكليزيا أو إيطاليا وأدى لبلده مثل ما أدى لمصر لقامت الدولة له بشيء آخر غير الإهمال