وبين الحياة من اسباب، والا هذا النداء الذي يتردد بين حين وحين عنيفاً يتكلف الرفق، طالباً الماء الذي يحتاج إليه في تسوية هذا القبر، وإقامة هذا السد بين صاحبه وبين الحياة، وإلا هذا اللغط الذي يؤذي الأسماع، وكان من حقه أن يكون موسيقى عذبة رقيقة تأسر القلوب الجريحة وتهدئ النفوس الثائرة، وترد الجازعين اليائسين إلى ما ينبغي لهم من الإذعان لقضاء الله والرضى بحكم الله. وهو لغط هؤلاء القراء الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب، وقد كره الله أن يلوي الناس ألسنتهم بالكتاب، لانه كتاب مبين مستقيم لاعوج فيه ولا التواء. وانما فيه هداية للعقول وشفاء لما في الصدور. ثم ينقطع كل صوت، ويتفرق هؤلاء الأصدقاء يحملون في قلوبهم ما يحملون من حب ووجد، ومن أسى ولوعة، يحملون هذا كله لينغمسوا به في هذه الحياة التي تنتظرهم على خطوات قليلة قصيرة من مستقر الموتى.
وكذلك انتهت قصة مختار مع انتهاء النهار يوم الأربعاء، وكذلك أسدل ستار الموت على حياة مختار في الوقت الذي أسدل فيه ظلام الليل على حياة الأحياء. وما اكثر ما تنتهي قصص الناس في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة. وما اكثر ما يسدل ستار الموت حين تشرق الشمس أو حين تغيب، فلا نحس ذلك ولا نلتفت إليه، لان الذين تختطفهم المنية أو تحصدهم في جميع الأوقات قوم مجهولون لم تميزهم الظروف أو لم تميزهم أنفسهم، فهم يمضون دون أن يحسهم أحد كما يقبلون دون أن يحسهم أحد. ولكن مختار كان غريباً حقاً في آخر حياته، وكان غريباً حقاً في أول موته، وأي عجب في هذا؟ لقد آثر حياة الغربة منذ أعوام، فكان لا يزور وطنه إلا لماما، ولقد تعود الجفوة من مواطنيه. واكبر الظن أن ذلك كان يؤذيه، ولكنه كان اكرم على نفسه من أن يشكو أو يظهر الألم. ولقد سمعنا انه احتمل المرض شجاعا، واستقبل المرض شجاعا، لم يدركه جزع ولا فرق. ولو انه رأى بعد ان مات كيف ودعه مواطنوه لما اثر فيه ذلك اكثر مما أثرت فيه جفوة مواطنيه قبل أن يموت. ولعله كان يألم لذلك في قرارة قلبه الممتاز، ثم لا يظهر من ألمه شيئاً كما كان يفعل أثناء الحياة، إنما نحن الذين ينبغي لهم أن يألموا اشد الألم، وان يحزنوا اشد الحزن، وأن يستشعروا شيئاً غير قليل من اللوعة والحسرة وخيبة الأمل حين ترى هذا العقوق، وحين نقدر أثره في نفس صديقنا الراحل العزيز. فقد كنا ومازلنا نتحدث