ولا عجب أن يكون فقيدنا كذلك؛ فقد كان يحمل بين جنبيه قلب شاب ويحمل في رأسه عقل حكيم. وشباب القلب وحب الحكمة نعمتان جزيلتان تجعلان صاحبهما متفتح الفكر متجدد العزم متلفت الذهن نحو ما تلده الليالي من أعاجيب الحياة، بريئاً من الاشتغال بالأضغان الغليظة والسخافات التافهة التي تشغل بال الجهال وتصرفهم عن ملء قلوبهم وأوعيتهم بأسرار الوجود
وإلى هذه الصفات في الفقيد كان يرجع أنس الشباب به وحبهم إياه وحبه إياهم وفهمه عقليتهم ومنازع نفوسهم في زمانهم يضاف إلى تلك الصفات أنه كان مؤرخاً واعياً وقصاصاً مملوء الحافظة بحوادث التاريخ ونوادر الرجال، فكانت مجالسة عامرة بأعذب القصص وأطرف الحكايات وتلك ميزة محببة إلى نفوس الناس جميعاً وخصوصاً الشبان الناشئين الذين يسرهم كثيراً أن يستمعوا لأحاديث الغابرين وصور الماضي تلقيها وتعرضها عليهم شيخوخة جليلة يتكلم الزمان على لسانها ويتحدث من خلال بيانها
وقد نفع الله شباب هذه الجمعية بالفقيد كمؤرخ إسلامي أجل نفع، إذا كان لما يسرده من تاريخ الإسلام ورسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم وأبطاله ومغازيه وذكرياته وفتوح سيوفه وأقلامه، أثر بالغ خالد في توجيه نفوسهم إلى إحياء تلك الذكريات الغاليات والأمجاد الخالدات
وقد سمعت من السيد رشيد رضا رحمه الله قوله: إن العقيدة الإسلامية لايريبها ويثبتها في القلوب إلا قراءة التاريخ الإسلامي؛ وإن أثر قراءة هذا التاريخ في تكوينها أعظم بكثير من قراءة كتب العقائد والجدليات
وهذا قول صادق تزيده الأيام تأييداً. فكلما زاد اطلاع المسلمين على تاريخهم ونشطت المطبعة في إخراج دفائنه ازدادت عقيدتهم رسوخاً وإيمانهم بأنفسهم وثوقاً
وقد جمع الفقيد إلى صفات المؤرخ الإسلامي ضلاعته في الاطلاع على الأديان الأخرى، وحفظه كثيراً من نصوص التوراة بالعربية والعبرية التي كان يحذقها، والأناجيل وإلمامه بأقوال شراحها، واستخلاصه من كل أولئك ما يؤيد رسالة الإسلام ويجلو أوصاف رسوله كما وردت في تلك الكتب، مما ملأ أيدي الوعاظ والدعاة الإسلاميين بالحجج المدافعة عن