الحجاج. ولما همت بالرجوع قالت (قدمنا مكة فأقمنا شهراً فما اّ ستطاع ابن أبي ربيعة أن يزودنا من شعره أبياتاً نلهو بها في سفرنا هذا) وبلغ عمر ذلك فقال قصيدته التي أولها:
راع الفؤادَ تفرقُ الأحباب ... يوم الرحيل فهاج لي أطرابي
ولما حملت إليها أعطت لحاملها في كل بيت عشرة دنانير.
وهذا الغزل الإباحي العفيف انتشر في الحجاز وخاصة في المدينة فترنم به الشبان. وغنت به القيان. وأنشده الكهول. واهتز له الشيوخ والزهاد. فابن عباس وهو من نعلم علمه وزهده وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمع من ابن أبي ربيعه شعره في المسجد الحرام ويهتز له.
وساعد هذا الترف على ظهور الغناء في المدينة وانتشاره بين معظم الشعب، فكانت المدينة مهد الغناء، لأن الحياة المرحة التي كان يحياها أهل المدينة تستدعي اللهو والطرب. ووجد بالمدينة في هذا العصر عشرات المغنين والمغنيات من الذين برعوا في هذه الصناعة وتفننوا في ألحانهم، وأحدثوا ألحانا جديدة لم تكن معلومة عند العرب، كما اّستعملوا آلات الطرب والمعازف كالعود والبربط والقضيب والمزهر والدف. وكانت المغنية (جميلة) تعلم الفتيات هذا الفن ودارها أشبه ما يكون بمدرسة فنون يتخرج منها عشاق الفن والطرب.
ونرى فقهاء المدينة يتساهلون في تحليل الغناء بعكس فقهاء الشام والعراق. ولم يبق منهم شريف ولادنىء يتحاشى عنه حتى الصحابة والزهاد كان يعجبهم الغناء ويهتزون له. كان حسان بن ثابت إذا سمع عزة الميلاء يبكي. وكان أبو السائب المخزومي يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان مع هذا ينحرف عن محرابه ويسمع غناء ابن سريج ثم يعود لصلاته. وهذا عطاء ابن أبي رباح الذي هو من أعلم أهل المدينة وأزهدهم كان يسمع الغناء ويهتز له. وقد حُكِّم بين الغريض وابن سُرَيجْ فحكم للثاني. ومر بالأوقص المخزومي قاضي المدينة سكران وهو يتغنى بليل فأشرف عليه وقال:(يا هذا أتيت حراماً، وأيقظت نياماً، وغنيت خطأ. خذه عني) وأصلح له الغناء.
وظرف عباد أهل الحجاز مما يضرب به المثل، وكانوا لا يرون في الحب بأساً إذا لم تكن فيه ريبة. وبلغ من ظرفهم أن أبا السائب المخزومي تعلق يوماً بأستار الكعبة وأخذ يقول:
اللهم اّرحم العاشقين واعطف عليهم قلوب المعشوقين بالرأفة والرحمة عليهم يا أرحم