وكان عهداً تسوده المكائد والدسائس. وقد هبط المستوى الخلقي وماتت روح الكفاح والمقاومة أو انتقلت من المدن حيث بدأت تظهر عوامل الفوضى والفناء وانحلال إلى الثغور والحدود، حيث الجهاد الدائم يدعو إلى التضحية والمقاومة وجمع الشمل والكلمة
في هذا العصر نبغ أبو العباس أحمد بن طولون وظهرت شخصيته الجبارة تدعمها قوة من مكارم الأخلاق وشيم الرجولة، وشدة ذكاء وفراسة، أنف من حياة المدن حيث السفاسف والدسائس والحيل والخداع؛ حيث توضع الولايات والأمصار لتباع وتوزع على المحاسيب والأنصار، واتجه إلى الثغور حيث الرباط والعدة والدعوة لله وحده. حفظ القرآن وسمع الحديث، وفصح بالعربية فملك ناصيتها، كتابة وخطابة، فكان تركياً مستعرباً يجمع أحسن ما في العروبة من مزايا على أحسن ما لدى الترك من أخلاق. وإذا قدر للناس كشف دخائل التاريخ في القرن الثالث الهجري دراسة وتحليلاً، أمكن الحكم أنه بعد وفاة المعتصم لم يعرف التاريخ العربي رجلاً فذاً يداني ابن طولون في قوة شكيمته وسداد رأيه، ومضاء عزيمته ونفاذ بصيرته
ولقد بقيت شخصيته مجهولة، حتى قيض الله الظرف فنشرت سيرة أحمد بن طولون لمؤرخ عاش في عصره هو أبو محمد عبد الله بن محمد البلدي، وكشفت نواحي مجهولة عن حياته الحافلة بالجليل من الأعمال وعن صفاته ومزاياه وتفوقه. وستبعث هذه الحياة العظيمة الكثير من التنقيب في تاريخ مصر العربية، وتخرج ألواناً من الكتابة في المباحث والتراجم، لأنها حياة حافلة لرجل عبقري منتج رج ملك الدولة العباسية رجاً، وهز العالم العربي وأنشأ بذكائه ومقدرته على قيادة الرجال وقوة سيفه دولة وأسرة لها مكانتها ومنزلتها.