أمضى الصديقان عاماً من خلافة المستعين وهما أبأس ما يكون حالاً، وقد انعقد واهي أملهما على سجين قصر الجوسق بسامراء، أبي عبد الله المعتز، وكان معتقلاً هناك مع أخيه إبراهيم المؤيد. ولقد كان من حقهما أن يستمسكا بهذه الآمال التي عقداها على الأمير المسجون لما كان يشهدانه من اضطراب حبل السياسة في يد المستعين؛ إذ راح الأتراك يقتتلون بدافع أطماعهم حول دعائم العرش التي أقاموها بأذرعهم، وبلغ من ضعف نفوذ الخليفة يومئذ أن امتدت أيديهم إلى وزيره (أتاش) وهو قائم بين يديه في قصره، فسلبوه الحياة مع كاتبه (شجاع)، وقد حدث ذلك يوم السبت رابع عشر ربيع الآخر عام ٢٤٩هـ
ومن الطريف أن نرى البحتري - وقد قرت عينه بهذا الحادث دون شك - يبعث إلى المستعين بهذه الأبيات مادحاً ومهنئاً في موضع كانت السخرية فيه أقرب إلى لسانه، والتشفي أعلق بفؤاده:
لقد نُصر الإمام على الأعادي ... وأضحى الملك موطودَ العماد
وعرفّت الليالي في (شجاع) ... و (تاشٍ) كيف عاقبة الفساد
تمادى منهما غيٌّ فلجَّا ... وقد تُردى اللجاجة والتمادي
وضلا في معاندة (الموالي) ... فما اغتبطا هنالك بالعناد!
وما نشك في أن البحتري كان أصدق في شعوره، وأبلغ بالإبانة عن وليجة نفسه، حين انكفأ غب ذلك إلى بيته يناجي خادمه (نائلا) يخفي أمانيه فيقول:
ألا هل يحسن العيش ... لنا مثل الذي كانا؟
وهل ترجع يا نائ - لُ بالمعتز دنيانا؟
عدمت الجسدَ الملقَى ... على كرسي سليمانا. . .
فقد أصبح لِلَّعْن - ةِ نقلاه ويقلانا!
ازداد نفوذ المستعين بين رعاياه تقلصاً، حتى لأصبح (الجسد الملقى) حقيقة كما وصفه البحتري. وانتهى الأمر بأن انحازت إليه شعبة من الأتراك على رأسها وصيفٌ وبُغا؛ وراحت شعبة أخرى يقودها باغر تدبر له الكيد وتمشي حوله الضراء من كل سبيل. ثم قتل باغر بتدبير من حزب الخليفة، فثارت ثائرة أنصاره حتى لم يجد المستعين بدا من الانحياز إلى بغداد (في المحرم عام ٢٥١هـ)