وتناهت هذه الأخبار إلى البحتري وأبي معشر وهما في معتكفهما، فأقبلا يتداولان في الأمر ملياً، ويجددان من قديم أمنيتهما، وقد أملا أن تطرد الحوادث في طريقها حتى تفضي بهما إلى كل ما يسر ويرضي. . . ثم انبعثا يقولان: وماذا علينا والحال كما نرى، أن نمضي إلى المعتز بالله في محبسه فنتودد إليه ونؤصل عنده أصلاً؟
وطابت لديهما الفكرة فجدا في إنفاذها، واحتالا حتى توصلا إلى لقيا الأمير في معتقله. ولم يكن البحتري قد أعد لهذا اللقاء شعراً، وأي شعر يقال لسجين يترقب الموت في كل لحظة!
على أنه فكر هنيهة حتى استرجع في ذهنه أبياتاً له قديمة كان قد واسى بها أبا سعيد الثغري وهو في معتقله أيام المتوكل، فأعاد تحريرها في رقعة لطيفة، وكان أبو معشر قد هيأ صحيفة في أحكام النجوم سهر على ضبطها وتصحيحها الليالي الطوال
وفي إحدى غرف الجوسق مثل الرجلان أمام المعتز فواسياه بما تهيأ لهما من كلام. ثم استأذن البحتري في الإنشاد، وتلا أبياته من رقعتها. . . كأنه نظمها من يومه:
جُعلنا فداك، الدهر ليس بمنفكِّ ... من الحادث المشكوِّ والنازل المُشكي
وما هذه الأيام إلا منازل ... فمن منزل رحب ومن منزل ضنك
وقد هذبتك الحادثات، وإنما ... صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبْك
أما في نبي الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الجور والإفك؟
أقام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
على أنه قد ضيم في حبسك العلا ... وأصبح عزالدين في قبضة الشرك
وأصغى المعتز إلى الشعر في تأثر، ثم تناول الرقعة ودفعها إلى خادمه وقال: احفظ هذه وغيبها، فإن أفرج الله عز وجل عني فذكرني بها لأقضي حق هذا الرجل الحر
وتقدم أبو معشر فقال: إني جئتك والله أيها الأمير بأعظم البشرى وأصدقها. كنت قد أخذت مولدك يوم عقد لك العقد، ويوم عقدت البيعة للمستعين، فنظرت في ذلك، وصححت الحكم لك بالخلافة بعد فتن وحروب تجري. وصح عندي الحكم على المستعين بالقتل، وهاك صورة مما عملت
فتناول المعتز الصحيفة مستبشراً، وشكر للرجلين نبلهما ووفاءهما، ثم وعدهما ومناهما. فخرجا وهما أكثر الناس رضاء وأرحبهم أملاً. . .