وانقضى شهر على حادث المستعين إلى بغداد جرت أثناءه مداولات غير مثمرة، ثم آب الثائرون إلى سر من رأى فأخرجوا المعتز من الجوسق وبايعوه بالخلافة. واضطرمت نار الفتن والحروب عاماً كاملاً خلع في نهايته المستعين، ثم نقل مخفوراً إلى (واسط) حيث قتل بعد أشهر. واستقر أمر الخلافة للمعتز. . . وهكذا صدق فأل البحتري وصحت نبوءة أبي معشر
ومثل الصديقان بعد حين أمام المعتز فهش لهما وبش، ورفع من مجلسهما حتى رمقتهما العيون بالغبطة، ثم قال لأبي معشر: لم أنسك منذ لقيتني، ولقد صح حكمك، وأنا مجر لك في كل شهر مائة دينار رزقاً وثلاثين مزلاً، وجاعلك رئيس منجمي دار الخلافة. ثم قد أمرت لك عاجلاً بإطلاق ألف دينار صلة. . . فقبض أبو معشر ذلك كله من يومه
أما البحتري فقد أنشد في ذلك اللقاء بائيته المشهورة:
بجانبنا في الحب من لا نجانبه ... ويبعد عنا بالهوى من نقاربه
وفي القصيدة مدح للمعتز وهجاء للمستعين؛ ونحن ندع للقارئ أن يراجعها بتمامها في ديوان البحتري، ولكنا نختص مع ذلك بالتسجيل هنا قوله:
بكى المنبر الشرقي إذْخارَ فوقه ... على الناس ثور قد تدلت غباغبه
تخطى إلى الأمر الذي ليس أهله ... فطوراً ينازيه وطوراً يشاغبه
ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ... ليعجزوا (المعتز بالله) طالبه
رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر ... وعُرِّي من بُرد النبي مناكبه
وقد سرني أن قيلُ وجِّه عارياً ... من الشرق تُحدّى سفنه وركائبه
إلى (واسط) حيث الدجاج ولم يكن ... لتنشب إلا في الدجاج مخالبه!
وكان رضى الخليفة بالغاً غايته عن شاعره الأول وشاعر أبيه من قبله، فاستحضر الرقعة القديمة بعينها وفيها أبياته الستة؛ ووهبه على كل منها ألف دينار، فأعطي البحتري ستة آلاف دينار كملا
ثم نصح إليه المعتز ألا يبادر بإنفاقها في شراء ما قد يروقه من غلام أو جاريه أو فرس. . . وقال له: (إن لك فيما تستأنف معنا في أيامنا، ومع وزرائنا وأسبابنا إذا عرفوا موضعك عندنا، غناءً عن ذلك. . .)