بمستطيعين في مثل هذا المقال أن نلم بشواهد تلك النواحي من عظمة عمر، فحسبنا أن نلم ببعض تلك الشواهد في ناحيته الفقهية التي هي أبرز نواحيه، وأخص ميزاته، فقد كان عمر في هذه الناحية نسيج وحده: شهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفها فيه أصحابه رضي الله عنهم:
قال صلى الله عليه وسلم:(إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) وقال: (بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب) قيل: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم!
وقال ابن مسعود رضي الله عنه:(إن عمر كان أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله)(ولو أن علم عمر وضع في كفة ميزان، ووضع علم أحياء الأرض في كفة لرجح علم عمر بعلمهم. ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم!)
وقد سئلت عنه عائشة فقالت:(كان والله أحوذياً نسيج وحده)
لم يكن فقه عمر من هذا النوع الذي أودعه الناس بطون الكتب. لم يكن من هذا النوع الذي تجلت فيه روح العصبية الحادة، ولوته الاتجاهات الطائفية، والنزعات المذهبية، لم يكن من النوع الذي جافى الحياة الواقعية في كثير من صوره ومسائله، ولا من النوع الغامض الذي التوت مسالكه، وتعقدت أساليبه، فصار بعيد المنال على من يريده أو يلتمس الانتفاع به من غير أهله. لم يكن من هذه الأنواع التي زعم الناس أنها فقه، بل التي اغتصبوا لها كلمة الفقه لتدل عليها، وإنما كان فقهاً ناصعاً واضحاً صافياً تستريح إليه النفوس، وتطمئن إليه القلوب، وتقضي به روح هذه الشريعة السمحة!
إن الفقه هو الفهم والفطنة والإدراك لما يريده الله تحقيقاً لمصالح عباده، وتنظيماً لشئونهم، وتيسيراً عليهم، وإسعاداً لهم برغد العيش وطيبات الحياة
هذا هو الفقه، هذا هو فقه عمر!
كان أساس الفقه عنده هو المصلحة، يقدرها قلب امتلأ بالإيمان والإخلاص، ويزنها عقل راجح منصف لا يميل به الهوى، ولا يفسده الغرض؛ ذلك بأنه رأى الكتاب الكريم يعلل الأحكام بالمصالح، ويربط بينهما وجوداً وعدماً، وبقاء وانتهاء، وأدرك ذلك في جميع تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم