وقد ظهرت أثار هذا الفقه من عمر في صنفين من الحوادث:
أحدهما: الحوادث التي كانت تنزل بالناس وليس فيها وحي يتبع، فيقول الناس فيها ويقول عمر، فينزل القرآن على نحو ما قال، فكأنما ألهم به إلهاماً، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر)
وقد ذكر العلماء الوقائع التي وافق فيها الوحي رأي عمر، وأوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين، نذكر منها على سبيل المثال والتطبيق رأيه في أسرى بدر، ورأيه في الحجاب، ورأيه في الصلاة على من مات من المنافقين
فأما رأيه في أسرى بدر فإنه لما تم النصر للمسلمين في هذه الغزوة، ووقع كثير من المشركين أسرى في أيديهم، عرض النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم على أصحابه، فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار وعسى الله أن يهديهم للإسلام. وقال عمر: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم فنضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة) ثم ضرب إبراهيم وعيسى مثلاً لأبي بكر، وضرب نوحاً وموسى مثلاً لعمر، وأخذ برأي أبي بكر فحكم بالفداء، فأنزل الله قوله:(ما كان لنبي أيكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)
قررت الآية رأي عمر، ونعت عليهم فكرة الفداء مبينة أن سنة الأنبياء الداعين إلى الله، المنشئين للأمم، ألا يأخذوا الأسرى طلباً للفداء إلا بعد أن يكونوا قد أثخنوا في الأرض، وظهرت لهم القوة والغلبة على أعدائهم، وتمكنوا من إبادة جراثيم الشر والعدوان التي من شأنها أن تقف دون نجاح الدعوة وتكوين الدولة. ولا ريب أن هذا هو الفقه الذي يرمي إليه عمر بقوله (إن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها) وإنه لخير للمجاهدين قبل أن يتمكنوا من خصومهم أن تجرد نفوسهم من كل غرض مادي، وأن تملأ قلوبهم بالروح المعنوية التي تحملهم على بذل النفس والتضحية بها في سبيل الله ابتغاء لما عنده وإيثاواً لعقبي الدار
ولذلك نهى عن الفداء أولاً، ثم شرع أخيراً بعد أن استقرت دولة المسلمين، وقويت شوكتهم