وهنا. . . يتجلى في محمد - على فرط حبه لإبراهيم وشدة حزنه عليه وجزعه لموته - إخلاصه للرسالة، ويرى في القول خروجاً على الدعوة التي بعث من أجلها، ولا يرضى أن يرى الناس في هذا معجزة فينسى أن إبراهيم، ولده وينسى أن إبراهيم كان رجاءه وأمله، وينسى أن إبراهيم مات ولما تتفتح نفسه له. . . وينسى فجيعته وهذا الهول الذي نزل به، ويقف خطيباً ويقول:(إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته؛ فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي)
صلى الله عليك. . . وهل بعد هذا من عظمة؟ ففي أحرج المواقف، في أدقها، لم تنس رسالتك، ولم تغفل عن الحق الذي أتيت به، وأبيت إلا أن تكون مخلصاً لدعوتك ولحقائق الوجود، وجئت بدستور كوني وضع حداً لسخافات المنجمين وأقوالهم، ولاعتقادات الناس في الظواهر الطبيعية والكونية، وبأن ما يجري في الكون لا يتقيد بأحد، ولا يسير إرضاء لبشر، بل إن هناك قوانين تسيرها، وأنظمة تسيطر على حركاتها، أوجدها الخالق منذ الأزل لا تحيد عن الطريق الذي رسمها، وقد تزهها عن الشذوذ والتناقض
ومن يبحث في هذا الكون ويسع في الوقوف على أنظمته والقوانين التي تسيطر عليه يجد أن لا شيء فيه إلا يسير ضمن دائرة من القوانين لا يتعداها، وأن ما يسيطر على أصغر وأجزاء المادة يسيطر على أكبرها، وأن الكون متسق في نظامه، متناسق في أجزائه، متشابه في تركيبه، وأن النظام الموجود في السيارات والشموس هو بعينه في الجوهر الفرد، في الكهارب وفي النوايا. ومن الغريب أن الإنسان كلما تقدم في الكشف عن القوانين الطبيعية وكلما حاول تفهم أسرارها، رأى نفسه أمام أسئلة عديدة لا يستطيع الإجابة عنها، وقد زاد اعتقاداً بضآلته وجهله، وبأنه لم يكشف شيئاً، وأنه لا يزال في فجر يقظته العقلية وفي مراحل التفكير الأولى في الوقوف على أسرار الوجود. وكلما قلب بصره في هذا الفضاء وزاد معرفة به شعر بأن الوداعة تقترب منه، وأن من الواجب عليه أن يكون في الذروة من التواضع وسمو الخلق. ولا عجب، فحسبه أن يعرف أن الأرض إزاء الأجرام السماوية التي لا عد لها أشكالاً وأنواعاً كذروة من الغبار سائرة إلى الفناء لا تأبه للحياة. . . ولقد ربط مبدع هذا الكون أجزاءه بعضها ببعض ربطاً وثيقاً لا يستغني أحدها عن الآخر ولا يستطيع أي جزء أن يسير دون غيره، فالإنسان مرتبط بالإنسان، وهذه كرته التي