للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قد انتهت خلال تلك القرون الطويلة إلى التبلور في ثلاثة: نبلاء ورجال كنيسة وطبقة ثالثة، لن نجد مشقة في العثور على أساس هذا التقسيم، فقد كانت تلك الأزمان أزمان العهد الإقطاعي حيث يسيطر كل أمير على مقاطعة تتبعه أراضيها، وما تحمل من بشر يعملون بها؛ وهكذا تكونت طائفة النبلاء، نبلاء الدم والوراثة. والى جانب هذه الطبقة كان من الطبيعي أن تنهض طبقة رجال الدين في عصور سيطرت فيها المسيحية على عقلية الشعب، وساقته إلى ما نعرف من زهد وتصوف، بل وحروب صليبية. وأما العمال والزراع فقد اطرد حمق البشر على إنزالهم دائماً مؤخر السلم

وأخيراً جاءت الثورة الفرنسية الكبرى، وانتفضت الإنسانية متطلعة إلى فجر جديد. ولقد حطمت تلك الثورة نظام الطبقات الذي تمخضت عنه، كما رأينا، القرون الوسطى؛ ولكن الإنسانية لسوء حظها لم تهتد، برغم ما أراقت تلك الثورة المجيدة من دماء، إلى أساس سليم تقيم عليه تقسيمها الاجتماعي. وفي استطاعتنا أن نفهم سر المأساة إذا ذكرنا أن تلك الثورة قد قامت بالمدن، وأن عصبها كان طائفة الحضريين الذين يُعرفون بالبرجوازية، أي (سكان المدن)، بل سكان باريس بنوع خاص، فهم منبت تلك الثورة وبؤرتها المقدسة. وقيام الحضريين بها لم يكن حدثاُ طارئا في التاريخ. فمنذ قرون كانت المدن العامل الفعال في مناهضة النظم الإقطاعية، وتحطيم سلطة الأمراء، وتمكين الملوك من توحيد الممالك. ولهذا كان من الطبيعي أن تنشأ في مدينة كباريس تلك الثورة العاتية التي أتت على ذلك النظام البائد.

وبنظرنا في المبادئ التي قامت عليها التقسيمات الاجتماعية في العصور القديمة والقرون الوسطى، نستطيع أن نحصي الأسس التي كانت تمكن من الوجاهة الاجتماعية، فهي الحكمة والشجاعة ووراثة الدم والزعامة الروحية. وجاءت الثورة فحطمت كل تلك الأسس، وإن لم تمحها محواً تلماً من عقلية الشعوب، حيث لا تزال تعمل إلى اليوم على تفاوت في النسب؛ وننظر فيما أقام هؤلاء الحضريون على أنقاضها من أسس جديدة، فلا نكاد نتبين غير أساس واحد هو المال، وهذا هو سر المأساة التي أشرنا إليها فيما سبق.

حلول المال محل غيره من المقاييس ظاهرة واضحة التفسير، فالثورة الفرنسية هي وأشباهها من ثورات القرن التاسع عشر قد قامت كما قلنا في المدن على يد الحضريين،

<<  <  ج:
ص:  >  >>