وهؤلاء جمهرتهم العظمى من الصناع والتجار؛ وهم بتقويضهم لطبقتي النبلاء ورجال الكنيسة قد استطاعوا أن يحلوا محلهما في الصدارة الاجتماعية. وهكذا انتهت الإنسانية إلى التقسيم الكبير المعروف: حضريون (برجوازية) وعمال، وأصبح المال الأساس العام لتوزيع الهيئة الاجتماعية
قد يقول قائل إن هذا الأساس الجديد خير من بعض الأسس القديمة، فهو يمكن الهيئة الاجتماعية من مرونة لم تكن تملكها عندما كان النبل مثلاً ظاهرة وراثية لا حيلة للبشر فيها. وهذا قول كان من الممكن قبوله لو لم يسد في تاريخ الإنسانية خلال القرن التاسع عشر ذلك الاختلال العجيب الذي لم يكن مفر من أن ينجم عن ظهور ظاهرتين كبيرتين في ذلك القرن، ونعني بهما الحركة الصناعية الكبيرة من جهة، والأخذ بمبادئ الاقتصاد الحر من جهة أخرى. والثورة الفرنسية السابقة على هاتين الظاهرتين لم تعالج طبعاً هذا الاختلال، بل ولا مهدت لعلاجه، ولهذا لحقتها بفرنسا نفسها ثورتان أخريان هما ثورتا سنة ١٨٣٠، سنة ١٨٤٨
نمو الصناعة وما تبعه من نمو التجارة أيضاً ساعد على تكوين طبقات عاتية من الرأسماليين؛ وروج علماء الاقتصاد لنظرية:(دع الفرد يعمل، دع التجارة تمر)، وقالوا بترك النشاط الاقتصادي حراً، فمكنوا بذلك أصحاب العمل من دماء العمال وهكذا بعدت الشقة بين طبقتي الأمة مما أثار ما نعرف من حركات ثورية واضطرابات اجتماعية
واتخاذ المال أساساً للتقسيم الاجتماعي مصدر لخطر كبير يتهدد الهيئة الاجتماعية في كيانها. ويزداد هذا الخطر وضوحاً في أثناء الحروب الكبيرة. ومظهر هذا الخطر هو الانحلال الخلقي. لمن شاء أن يصدع آذاني بقوله إن من الناس العصاميين القادرين على جمع الثروات الطائلة بمهارتهم وحسن فهمهم لحاجات الناس وملاقاة تلك الحاجات، فذلك ما لن أقبله. وعندما أنظر حولي فلا أرى إلا صعاليك ليس في عقولهم فكر ولا في قلوبهم ضمير ينثرون المال كل صوب في قحة تنفر منها النفس، لا أستطيع إلا أن أحكم بأنهم لا يملكون من مواهب غير الدجل والنصب والاحتيال
ويزيد في تلك الظاهرة خطورة قيام الحروب الكبيرة، كما قلت، فعندئذ ترى النصابين يستغلون مواطنيهم أقبح استغلال، وترى الأوضاع الاجتماعية وقد انقلبت رأساً على عقب